في مقابلتها، مؤخرا، مع لينزي ديفيس على شبكة ABC News الأميركية بتاريخ 24 أيلول 2024، أثارت الملكة رانيا العبد الله قضايا ملحة حول ازدواجية المعايير في التعامل الدولي مع الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، موجهة نقدا لاذعا للسياسات العالمية التي تتجاهل معاناة الفلسطينيين وتوفر غطاءً لإسرائيل.
هذه المقابلة ليست مجرد بيان سياسي، بل دعوة صريحة للتغيير الجذري في كيفية التعامل مع الصراع، وتعكس مواقف ثابتة لطالما دافعت عنها الملكة في مسيرتها الإنسانية. لكن ما يميز حديثها هذه المرة هو التركيز العميق على التحليل والمقارنة بين ما يحدث في فلسطين والتجارب الدولية الأخرى، ما يضفي مزيدا من الثقل الأخلاقي والسياسي على حججها.
ركزت الملكة في حديثها على غزة، مشيرة إلى أن الحصار المستمر منذ سنوات يُعد أحد أطول وأقسى أشكال الحصار في التاريخ الحديث. في مقارنة دقيقة بين الكثافة السكانية في غزة وتلك في مدن كبرى مثل نيويورك، أوضحت الملكة كيف أن المدينة الصغيرة التي تعاني من أزمات إنسانية متفاقمة تتعرض لقصف كثيف ومستمر، وصفته بأنه تجاوز بكثافته القصف الذي شهدته أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية. هذه المقارنة تهدف إلى إظهار أن ما يحدث في غزة ليس نزاعا عاديا بل مجزرة مستمرة، تُغلق أمام أهلها أبواب الحياة الكريمة وتُعرضهم للعنف اليومي دون رحمة.
من المهم النظر إلى هذه المقارنة في سياق التحليل الأوسع الذي تقدمه الملكة: العالم لم يعد يتفاعل مع الأزمات وفقا لمبادئ العدالة العالمية، بل بات يستجيب حسب موقع الضحية على الخريطة السياسية. في حين أن أوروبا شهدت تضامنا عالميا وإعادة إعمار واسعة بعد الحرب، تُترك غزة لمصيرها تحت الأنقاض، دون أي أفق للتغيير. هنا تأتي نقطة التحليل المهمة: إذا كان العالم قد تعلم من دروس الحروب المدمرة، فلماذا يُغض الطرف عن مذبحة غزة؟
تطرقت الملكة رانيا في حديثها إلى مفهوم "الدفاع عن النفس" الذي تطرحه إسرائيل كتبرير لأعمالها العسكرية، متسائلة بوضوح: هل الدفاع عن النفس يعني تدمير حياة آلاف الأبرياء؟ في سياق هذا التحليل، أكدت الملكة أن الرد الإسرائيلي على أحداث السابع من أكتوبر غير متناسب وغير مبرر أخلاقيا. وأشارت إلى ازدواجية التعامل الدولي، حيث تُعتبر معاناة الفلسطينيين أمرا "عاديا" بينما تُحيط المأساة الإسرائيلية بتعاطف عالمي واسع.
دعم المجتمع الدولي غير المشروط لإسرائيل، وخاصة من الولايات المتحدة، يسمح لها بمواصلة سياساتها دون أي محاسبة. هذه الازدواجية تُعمّق الأزمة، وتجعل من عملية السلام بعيدة المنال. وهنا تقدم الملكة مقارنة إضافية ذات بعد أخلاقي وسياسي: إذا كانت الدول الغربية أدانت روسيا على أفعالها في أوكرانيا، فلماذا تتجاهل الجرائم التي تُرتكب بحق الفلسطينيين؟
استخدام الملكة للمقارنة بين الوضع في فلسطين والوضع في أوكرانيا يعزز من قوة حجة الملكة ويبرز التناقضات في السياسة الدولية. عندما غزت روسيا أوكرانيا، شهد العالم حشدا هائلا من الدعم الدولي لأوكرانيا، بما في ذلك فرض عقوبات قاسية على روسيا. في المقابل، يستمر الدعم العسكري والاقتصادي لإسرائيل رغم انتهاكاتها المستمرة للقانون الدولي وحقوق الإنسان في فلسطين. هذه المقارنة تسلط الضوء على أن بعض الدول تتمتع بالحصانة السياسية والدبلوماسية، بينما يتم فرض عقوبات صارمة على دول أخرى لأسباب مشابهة أو أقل خطورة.
في سياق حديثها القوي والدقيق، نجد أن الملكة تمثل صوت العقلانية والعدالة في منطقة تعاني من الانقسامات والصراعات. بفضل مكانتها الدولية وصراحتها في التعبير عن القضايا الإنسانية، أصبحت الملكة رانيا من بين الأصوات الرائدة في العالم التي تدافع عن القضية الفلسطينية على المستوى الدولي. مواقفها ليست مجرد ردود فعل عاطفية، بل تستند إلى تحليل عميق وفهم شامل للصراعات الدولية والقضايا الإنسانية.
من خلال هذه المقارنة الدقيقة والتحليل الواعي، تسعى الملكة لتوجيه رسالة واضحة إلى العالم: لا يمكن تحقيق العدالة إذا استمرت الدول الكبرى في تبني مواقف منحازة تسهم في تأجيج الصراعات بدلا من حلها. دور المجتمع الدولي يجب أن يكون في فرض عقوبات على إسرائيل وإيقاف الدعم العسكري لها حتى تلتزم بالقانون الدولي، تماما كما يحدث مع دول أخرى.
الملكة رانيا، من خلال تحليلها العميق، لا تدعو إلى حل مؤقت أو مجرد تهدئة مؤقتة للوضع، بل تدعو إلى تغيير شامل يضع حدا لسياسة الإفلات من العقاب التي تتمتع بها إسرائيل. ترى الملكة أن الطريق إلى السلام يبدأ من مساءلة كل من ينتهك حقوق الإنسان، وإعادة الفلسطينيين إلى مكانهم الطبيعي كأصحاب للأرض والحق.
في ظل الصمت الدولي الذي يستمر في التستر على الجرائم المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني، الملكة تطالب بتطبيق المعايير الإنسانية والدولية على الجميع دون استثناء، معربة عن أملها في أن يؤدي ذلك إلى تحقيق العدالة التي طالما حلم بها الفلسطينيون. هذا الصوت هو ما يحتاجه العالم، اليوم، صوت يدافع عن الحق والعدالة بلا خوف أو تردد.