ثمة دلالة في نهاية رواية "نصّ أشكنازي"، التي ختم بها الكاتب المقدسي ثلاثيته عن القدس، وهي قرار الزوجين المقدسيين بالإنجاب، والثاني، مقاومة تزوير رونيت واتسفيكيا مغارة عادية لتصبح مغارة يهودية منذ عهد الفرس، حين التهمتها النيران.
بُعد وطني قومي بالتمسك بالبلاد، عن طريق ضمان وجود أجيال تحمل رسالة البقاء، وهو بعد وجودي عميق. كذلك فإنه كما يبدو ليس هناك خيار إلا خيار المقاومة التي يمكن أن تتجلى بمناهضة الكذب فكريا وماديا. ولربما هذه هي خلاصة التأمل في حالة القدس بشكل خاص وفلسطين بشكل عام.
تشكل ثلاثية القدس معا باكورة إبداعه الروائي اللافت للانتباه منذ رواية "كافر سبت"، التي يساهم فيها الكاتب بتحرير الأدب الفلسطيني من التنميط والتكرار.
هل كان في تخطيط الكاتب في روايته الأولى "كافر سبت" بأنها ستكون الأولى في ثلاثيته؟
رحلة المصير الوجودي والسياسي الوطني الاجتماعي النفسي، للمقدسيين، تحت الاحتلال، على مدار 57 عاما.
زمنيا، تمتد ثلاثية الكاتب المقدسي منذ العام 1967، عام الهزيمة، وسقوط ما تبقى من فلسطين، حتى هذا العام 2024. في حين كانت القدس هي المكان الأكثر حضورا، بما فيها من مقدسيين ومستوطنين.
من يروي؟ كل وروايته، فإذا روى نبيه وآخرون في "كافر سبت"، وإذا روت حورية جزءا مهما من رواية "حرام نفسي"، الجزء الثاني من الثلاثية، فإن "نصّ أشكنازي"، روته عدة أصوات: اتسفيكيا، ونبيه، وحورية، ورونيت. وهي بصيغة أخرى: روايات الزوجين المقدسيين نبيه وحورية، والزوجين المستوطنين اتسفيكيا ورونيت.
لنبيه 3، واتسفيكيا 2 ولحورية ورونيت، كل واحدة لها سرد.
كل ومنطلقاته التي رسم فيها عارف الحسيني شخصيات الرواية، بل الثلاثية بشكل عام؛ من خلال اعتماد الكاتب إبداعيا على مونولوجات الشخصيات من جهة، وحواراتها معا، ما جعل تلك المونولوجات والحوار، يزيد من تشابك الخيوط للوصول إلى مآلات الشخصيات، واقعيا ورمزيا ووجوديا.
في "كافر سبت"، أسس الكاتب حال مدينته وشخوصها منذ الاحتلال المرتبط بهزيمة العام 1967، متابعا ذلك في "حرام نسبي"، وصولا إلى العقدين الأخيرين، الذي ركز الكاتب فيهما على تهويد القدس من خلال تهويد بيوت الشيخ جراح.
في "كافر سبت"، التي صدرت العام 2014، كان نبيه طفلا ففتى فشابا، وظهرت فيه ومن خلاله، ومن خلال المقدسيين، تحولات المجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي، وبتركيز على المجتمع المقدسي، وبشكل خاص على حقب السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، التي شهدت تجريب الشخصية الرئيسية للحياة، عاطفيا واجتماعيا وفعلا سياسيا وطنيا. وقد ظهر سلوكان للمقدسيين أبدع الكاتب في تصويرهما: الأول سلوك مقاومة الاحتلال في القدس الشرقية المحتلة العام 1967، في ظل أغلبية مقدسية، قبل زيادة المستوطنات بشكل كبير. والثاني، والذي يبدو متناقضا يتمثل في اندماج المقدسيين كعمال (بروليتاريا) في المجتمع الكولنيالي الغربي، في القدس الغربية التي احتلت العام 1948.
لقد ظهر تكيف المقدسيين، في التعامل مع عنصرية الحكم العسكري والمستوطنين، باختيار هدف البقاء عبر مقاومة ذكية، تجتهد في الاستفادة من ممكنات العمل في المجتمع الاستيطاني، لدعم بقاء المجتمع المقدسي الأصلاني. وهو ما حدث لفلسطينيي العام 1948، منذ النكبة حتى الآن.
وهكذا فكان من الطبيعي وجود شخصيات يهودية مثل المشغل والحاخام والمحقق، وإبراهام، ورونيت.
في "كافر سبت" يساعد أحد أصدقاء عم نبيه بالعمل في "بلدية الاحتلال"، كونهما كان على علاقة صداقة قبل العام 1948، أي قبل إقامة دولة الاحتلال، كأن الرواية تذكرنا بحالة ما كان يمكن اعتباره تعددية نسبية، ضمت الناس من أديان مختلفة. يعمل والد نبيه في "البلدية"، لكن لا يستأنف علاقته مع صديقه الذي صار ينتمي إلى مجتمع كولنيالي. يمكن تفسير ذلك بالنظرة الإنسانية التي تقدر العلاقة القديمة، لا أنسنة المستوطنين الجدد.
في "حرام نسبي" التي صدرت العام 2017، أي بعد خمس سنوات، يركز الكاتب على الفضاء الاجتماعي كتجليات الاحتلال، والتحولات التي حدثت في المجتمع، خاصة في ظل جدلية العلاقات التقليدية، التي تتراوح بين اللجوء للماضي واللجوء للحاضر. وهنا يفسح الراوي المجال لحورية في السرد، بما في ذلك تقديم نفسها كامرأة مقدسية متنورة ابنة رفيق ماركسي، تتزوج من أسير محرر، تماما كوجود السارد نبيه الذي يختبر الأسر والقيد. وهنا نجد الرواية تحفل بالصراع النمطي بين الرجل والمرأة، والذي يصبح له دلالة كونه يتم في ظل صراع المقدسيين مع الحكم العسكري والمستوطنين. وهكذا، فإن "نصّ أشكنازي"، الصادرة عن دار الشروق 2024، تأتي استكمالا روائيا لما مضى في الروايتين السابقتين. وهنا في ظل تسارع صراع البقاء في القدس، في ظل استشراس المستوطنين. وهو تسارع ينسجم مع تسارع الكذب تجاه ملكية المكان والممتلكات. ولعل سرد كل من اتسفيكيا المستوطن، وزوجته رونيت، التي كانت تعمل في مكتب توزيع الصحف في القدس الغربية مع نبيه، يدل على منطلقات الاستيطان، وتعريها.
تعرض الرواية لمظاهر العنصرية في التعامل مع الفضاء، لدفع المقدسي خارجه عبر هدم البيوت، كما حدث للغرفة التي استخدمت كوافير نساء، بحجة عدم الترخيص. لعل ذلك هو ما دفع الراوي إلى إيراد رواية هرتزل "الأرض القديمة الجديدة".
فاتسفيكيا، أبوه عراقيّ يتنكر له ولكل ما له علاقة بشخصية العراقيين العرب، وأمه بولندية، يعيش تناقض الأصول، ويصبح همه الخلاص الفردي، من خلال الاستفادة من يهوديته، تماما كما فعل والداه. ويستفيد من خلال النشاط الاستيطاني المحموم بتوفير سكن له على حساب المقدسيين في الشيخ جراح. يظهر هنا كيف يكون المال همه، بل وطريقه إلى عالم السياسة، فيعمل مصنعا للطليس أي سترة المتدينين، التي تلبس تحت القميص، لكنه يتهرب من دفع الاستحقاقات الضريبية لدولته. في الوقت الذي يسعى ليكون بطلا من خلال نشاطه في المستوطنات.
وهو هنا يقع تحت تأثيرات ليس فقط تنميط العرب، بل وتنميط المرأة اليهودية وصولا إلى احتقارها.
أما رونيت التي لا تحب زوجها وتنتقده، فإنه لم يكن أمامها غير الارتباط به، وقد جمعهما الطمع. ويبلغ طمعها هي الأخرى من خلال تزوير مغارة عادية كان يرتادها المناضلون قبل العام 1948، لتصبح من خلال الاستفادة من مقتنيات ورثتها عن أمها لتحول المغارة العربية إلى مغارة يهودية لعابد يهودي زمن الفرس حيث اضطهاد اليهود.
وقد تجلى التزوير حين تم اختلاق وريث غير معروف النسب فعلا، ليكون أحد الورثة الذي يحق له جزء من الميراث في البيت في الشيخ جراح، ليسهل بيع حصته المفترضة لليهود المستوطنين.
يظهر في الرواية نضج نبيه، وعدم وقوعه في شباك المحقق، ولا في شباك الوهم السياسي للسلطة التي تكونت حديثا التي وجد المقدسيون في ظلها وحيدين.
ثمة دلالة في ارتباك تكوين هوية اتسفيكيا المرتبكة، والمترددة ما بين أصل السفارديم الشرقي العربي العراقي من جهة الأب، والأشكنازيم الغربي البولندي من جهة الأم؛ فكان هذا التنازع مجالا لتعذيب ذاتي، تمثل في "طلبه من زوجته أن تعدّ (الجيفيلتي فش) وهو السمك البارد الذي يفتتح الأشكناز به وجبة ليلة السبت، ولم يقبل يوما أن تطبخ له سمكة أميرة النيل كما يفعل يهود السفارديم الشرقيون، وفي كل أسبوع ترمي (الجيفيلتي فش) في القمامة لأنه لا يأكلها، فيسمع أهل الحيّ صوت شجارهما حول المائدة". أما الدلالة فهي عن تشظي الهويات؛ فنصّ (نصف) أشكنازي، تعني ما انقطع وما اتصل بطرق غير طبيعية، بمعنى صناعة المجتمع غير الطبيعي.
ثمة احتفال خاص أدبيا ووطنيا وقوميا ونحن ننتهي من قراءة الرواية، بعد قراءة الروايتين السابقتين، اللتين ائتلفتا مع الرواية الثالثة، التي بين أيدينا، في ثلاثية روائية سيقف عنها النقاد والمؤرخون، بل والتي سيلتقطها مخرج دراما تلفزيونية، لتصير مسلسلا يبث في بلادنا العربية، ليرينا جميعا حالة القدس المحتلة.
وهكذا، فقد نحت الكاتب اسمه على خارطة الرواية الفلسطينية، فمنذ صدور روايته الأولى "كافر سبت" قبل عشر سنوات، لفت عارف الحسيني النقاد والقراء، بجديته وتوظيفه لمعارفه المتنوعة وخبراته، واختباره اليومي لحال القدس منذ تفتُح عينيه فيها، فكانت الرواية صورة ضميرية حقيقية للقدس على مدار الاحتلال الثاني العام 1967، تلك السنوات التي عاش الكاتب جزءا كبيرا منها.