طرحت الحرب الإسرائيلية ضد حزب الله والنتائج الأولية والمسار المباشر في الأمد القريب والمتوسط أسئلة كبيرة وكثيرة. فالحرب المتوحشة التي يدفع ثمنها الشعب اللبناني الآن، والشعب الفلسطيني طوال الوقت وشعوب المنطقة كتحصيل حاصل، هي صراع بين المشروع الإسرائيلي والمشروع الإيراني حول نفوذ وحصص إيران أو هيمنة إسرائيل على المنطقة. وإذا كان حل مثل هذا النوع من الصراع يتم عبر التقاسم بحسب ميزان القوى، فإن مصالح الشعوب العربية ستكون خارج المحاصصة، بل ستكون المتضرر الأكبر وبخاصة الشعب الفلسطيني.
أي قراءة موضوعية لموازين القوى قبل هجوم 7 أكتوبر وخلال سنة الحرب التي أعقبته، سترجح الكفة الإسرائيلية في الصراع مع المشروع الإيراني. أولاً لجهة غياب الحليف الدولي كروسيا أو الصين القادر على خلق توازن مع الدعم الأميركي والغربي لإسرائيل. وثانياً: البون الشاسع في مجال التفوق - العسكري والتقني والاستخباري بين إيران وإسرائيل لصالح الأخيرة. وثالثاً: الفارق الهائل في العامل الاقتصادي بين بلد يعاني من آثار الحصار والعقوبات ويعيش أزمات مالية خانقة ومتلاحقة، وبلد له اقتصاد متطور، ويحظى بدعم أميركي وغربي مفتوح وبخاصة أثناء الحرب، وتصب فيه أموال صناديق الدعم الضخم من المنظمات الصهيونية واليهودية والميسيانية في الخارج.
اعتقدت إيران أنها ستتفادى الخلل في موازين القوى من خلال استراتيجية «توازن الرعب» وتحديداً عبر منظومات الصواريخ التي ستدمر إسرائيل في اقل من 8 دقائق، وعبر المسيّرات والأنفاق، وعبر إخراج الدولة وبنيتها من المعادلة، لصالح مليشيات ضمن تقسيم أدوار غرائبي، فالدولة ومؤسساتها مسؤولة عن المواطنين وأعبائهم أثناء الحرب، والمليشيات تقرر الحرب وتُخضع الدولة لمشيئتها وتنزع منها جوهر دورها لاسيما احتكار العنف. اعتقدت القيادة الإيرانية انها حققت توازن الرعب وبخاصة على الجبهتين اللبنانية والفلسطينية، مُغفلةً أن سيطرة ايران على أربع عواصم عربية، كان مفيداً للاستراتيجية الإسرائيلية لجهة تخويف الدول العربية من خطر إيراني ودفعها للتحالف مع إسرائيل – الاتفاقات الابراهيمية -. ولجهة استخدام انتشار سلاح الرعب الإيراني في محيط إسرائيل في تبرير تنصل إسرائيل من أي حل سياسي للقضية الفلسطينية ينهي الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي المحتلة عام 1967. وفي الوقت الذي سعت فيه إسرائيل الى تقويض منظومة الصواريخ الثقيلة والخفيفة.
استناداً للاستراتيجية الإيرانية نفذت حركة حماس هجوم 7 أكتوبر، وحث بيان قائدها العسكري محمد ضيف قوى محور المقاومة والممانعة للحذو حذوها، انسجاما مع الشعار المرفوع «وحدة الساحات»، غير أن ايران نكثت ذلك المبدأ لأنها تعرف حق المعرفة أن وظيفة «توازن الرعب» هي منع إسرائيل من توجيه ضربة لمشروعها النووي ولقدراتها العسكرية، وليس استدعاء إسرائيل لتوجيه الضربات. والوظيفة الأخرى هي للمساومة على تحسين دورها الإقليمي، ولا يتضمن مشروعها تحرر الشعب الفلسطيني من الاحتلال ولا تحرر شعوب المنطقة من الهيمنة الأميركية الإسرائيلية.
أحدث الموقف الإيراني انتكاساً لوحدة الساحات، وذلك عندما استفردت إسرائيل بقطاع غزة ومن قبله الضفة الغربية وأمعنت في حرب إبادة مروّعة. وكان تدمير العنصر الفلسطيني في محور المقاومة يعني خسارة مركبة معنوية ورمزية وعملية. وعندما تدارك الزعيم الفعلي لمحور المقاومة حسن نصر الله بالدخول في المعركة من موقع الإسناد المحدود والمدروس، وربط بين وقف إطلاق النار على جبهة حزب الله بوقف إطلاق النار على جبهة غزة بما في ذلك الانسحاب الإسرائيلي من غزة. وبرر حرية كل ساحة في مقاومة العدو الإسرائيلي وفق خصوصياتها. لم تحل السياسة التي اتبعها نصر الله دون السيطرة العسكرية على قطاع غزة بدون إنهاء المعركة، ولم تحل دون وضع 2.3 مليون فلسطيني في حالة موت وتشرد وترويع دائمين، إضافة الى تفكيك النسيج الاجتماعي بعد تدمير البنية التحتية للمجتمع. لم يغير تدخل حزب الله الإسنادي في نتائج الحرب، بل حدث العكس حين جرى تحويل مركز ثقل آلة الحرب الى جبهة حزب الله التي كان يجري الإعداد للسيطرة عليها منذ سنوات طويلة.
إن السيطرة على قطاع غزة وإخراج الساحة الفلسطينية معنوياً ورمزياً وعملياً من محور المقاومة، واستفراد آلة الحرب بساحة حزب الله بغية إخمادها، هذان التطوران المأساويان يقوّضان محور المقاومة ويضعان إيران في موقع تفاوضي بائس. ويسمحان لإسرائيل وحلفائها بإعادة بناء السيطرة على المنطقة في إطار علاقات تبعية جديدة، سيطرة تشطب القضية الفلسطينية ويواصل فيها اللاعب الإسرائيلي تفكيك الشعب والمجتمع الفلسطيني. الآن يتحدثون عن شرق أوسط جديد، تهيمن فيه إسرائيل على الإقليم. إيران واستراتيجيتها الفاشلة، التي قدمت نفسها بأنها العامل الوحيد الذي يعترض على الهيمنة الإسرائيلية كانت للأسف أحد العوامل التي ساعدت موضوعياً في الوصول الى هذه النتيجة المأساوية، سواء بدفع أنظمة عربية للارتماء في حضن إسرائيل بلا ثمن تفادياً للخطر الإيراني بحسب ما يدعون، وإنما بخلق أوهام شعبية حول هزيمة إسرائيل بدون مقوّمات حقيقية، والتحريض على اعتماد حرب المواجهة غير المتكافئة التي تؤدي الى دمار بِنى المقاومة والمجتمع على حد سواء، كما حدث في قطاع غزة وشمال الضفة وحالياً في لبنان. وباستخدام خطاب شعبوي يستند للايديولوجيا الدينية التي تغلّب الشهادة على تحقيق أهداف دنيوية وطنية، ويفتقد الى أي حساسيات تجاه معاناة المجتمعات اثناء الحرب. لقد انعدم تحضير المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة والضفة للحرب، وانعدم تحضير المجتمع اللبناني أيضاً. والأنكى، لا توجد مراجعة او مكاشفة تؤدي إلى تصويب الأخطاء والبحث عن مخارج وحلول تقلل من خسائر ومعاناة البشر. ورغم ذلك يستمر إطلاق الخطاب الذي يتحدث عن مأزق العدو وإخفاقه في تحقيق أهدافه، في الوقت الذي تتفاوض فيه إيران مع إدارة بايدن حول موقعها الإقليمي ودورها ومفاعلها النووي وسلاح محورها المقاوم. هل هذا يعني أنها تخلت عن الساحتين الفلسطينية واللبنانية، ومقاومتيهما؟ ما يمكن قوله إن الاستراتيجية الإيرانية أخفقت أيما إخفاق وان الانفكاك عنها بات ضرورة. الانفكاك لا يعني التعويل مجدداً على السياسة الأميركية المنحازة لدولة الاحتلال بل يبدأ باعتماد سياسات ومشاريع مستقلة.
بدأ المجتمع اللبناني يتلمس طريقه، فمنذ أيام العدوان الأولى قدم اللبنانيون نموذجاً للتضامن العابر للممالك الطائفية، وقدم مقترحات تدعو إلى استعادة الدولة لدورها عبر انتخاب رئيس للجمهورية لكل اللبنانيين، وعبر تشكيل حكومة تتحمل المسؤولية، وإعادة دور الجيش المغيب وتدعو إلى التزام قرارات الشرعية الدولية والعمل على تطبيقها. منذ أيام العدوان الأولى دافع المجتمع اللبناني عن نفسه وقد تعرض للمعيقات التي تحول دون وحدته، ونقد السياسات والتدخلات بشجاعة، وقد ساعد هذا الموقف المسؤول والشجاع على حفز الدعم العربي والدولي. لكن المجتمع الفلسطيني للأسف لا يدافع عن نفسه رغم الكارثة التي يعيشها قطاع غزة، ولا يتقدم بمشاريع إنقاذ ولا ينقد الأخطاء بل يسمح بتبريرها.