عام كامل مضى على الشرارة الهائلة التي انطلقت يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، انطلاقاً من قطاع غزّة، وبمبادرة من فصائل المقاومة هناك، تحت عنوان ذي دلالات إستراتيجية، أحدثت زلزالاً لم تتوقّف بعد ارتداداته التي بلغت حدود العالم.
يعترف العدوّ قبل الصديق، أنّ «طوفان الأقصى» في صباحه الأوّل شكّل اختراقاً إستراتيجياً غير مسبوق، في جدار القوّة الإسرائيلية وألحق أضراراً بالغة بهيبة الجيش الإسرائيلي، والأجهزة الأمنية والاستخبارية وضرب في العمق وبقوّة بالغة إستراتيجية الردع التي تغنّت بها الدولة العبرية وأطاح بتفوّقها.
والسؤال الذي يتردّد حتى اليوم يتعلّق بما إذا كان ما جرى صبيحة يوم السبت مؤامرة، تقدّم للاحتلال ذريعة كان ينتظرها، أم أنه خطوة غير مدروسة، عادت على الشعب الفلسطيني بثمن باهظ يصعب على دول احتماله، أم أنّه إطلاق صافرة الكفاح لتحرير الأرض والحقوق الفلسطينية المهدورة.
اختلف الفقهاء في الإجابة عن السؤال، والكثيرون ومنهم فلسطينيون من مدّعي الخبرة والحكمة، أخذتهم العزّة بالإثم، فاستعجلوا كيل الاتهامات لـ»حماس» والفصائل، و»محور المقاومة»، وحمّلوا هؤلاء المسؤولية عن الدمار الهائل، والدم الغزير الذي سفكته آلة الحرب الإسرائيلية.
لا يخلو تفكير هؤلاء من طفح الحديث عن الطائفية، والمواقف المسبقة، والحسابات الاستثمارية لصالح إيران، وهروب القيادات التي تسبّبت في الزلزال إلى الفنادق الفخمة، لم يشفع لـ»محور المقاومة، الذي خضع للتشكيك، أن قدمت قياداته دماءها، ودماء عائلاتها، ومنتسبيها للانتقام والاغتيال والملاحقة المستمرّة وهذا الدمار الهائل الذي لحق ولا يزال يلحق بفلسطين ولبنان واليمن.
ينسى أو يتناسى هؤلاء، ما كانت تعيشه الضفة الغربية والقدس، من استيطان، واعتقالات، واعتداءات، واقتحامات للمدن والقرى والمخيّمات، وهدم منازل ومصادرة أراضٍ وانتهاك المسجد الأقصى، وكلّ ذلك تحت عنوان «الحسم» الذي رفعته وتكفّلت به حكومة هي الأشدّ تطرّفاً في تاريخ دولة الاحتلال.
يتباكى البعض على الحياة المعقولة التي عاشها أهل غزّة قبل «الطوفان»، بالرغم من شدّة الحصار، ويدّعون أنّ استعادة الحقوق، يمكن من خلال النضال السلمي، والصبر الطويل رغم أنّه عِيلَ صبر الفلسطينيين وهم يبحثون عن السلام وعن المراهنة على الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأميركية.
يتناسى أو ينسى هؤلاء، الخارطة التي رفعها بنيامين نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، قبل شهر من «الطوفان»، وكانت تشمل كلّ أرض فلسطين التاريخية باعتباره وطن اليهود، وحديثه عن الشرق الأوسط الجديد.
يتباكى هؤلاء، على ما ألمّ بأهل غزّة، والضفة، جرّاء الوحشية الإسرائيلية وكأنّ الأوطان، والحقوق، تُستعاد أو تُنتزع، بأثمانٍ قليلة.
لقد أثبتت الوقائع المتلاحقة، أنّ إسرائيل، كانت ستقوم بما قامت به، بعد «الطوفان»، حتى لو لم يقع ما وقع في مثل هذا اليوم من العام الماضي، وأنّ ما وقع في ذلك اليوم كان ضربة استباقية لمشروع ومخطّطات خرجت من الأدراج، وفوق كون هذه المخطّطات، تشكل إستراتيجية نتنياهو وحكومته لحسم الصراع، فإنّ وضعها في إطار التنفيذ، كان يشكّل مخرجاً مقصوداً، لأزمة داخلية وانقسامات سياسية ومجتمعية تفاقمت بسبب إصراره على انقلابه القضائي والديمقراطي.
وحين تعوز هؤلاء المدّعين الحكمة فإنهم يتهمون فصائل المقاومة، بالاستفراد بالقرار الصعب، وكأنّ إمكانية تحقيق التوافق الوطني الكفيل بضمان اتخاذ قرار وطني، كانت قاب قوسين أو أدنى.
يُكفّر هؤلاء أخيراً، حين يحرّضون على الفصائل، وجودها ودورها ومسؤولياتها، وإحالة أمر الكفاح إلى الفراغ، أو إلى المبادرات الشعبية.
لا يرى هؤلاء، أنّ ثمّة تناسباً طبيعياً بين تحقيق الانتصار والثمن المدفوع من قبل الشعب الفلسطيني وينتظرون أن تأتي الحقوق على طبقٍ من ذهب. وفي محاولة مكشوفة لاستدرار عواطف الشعب المكلوم، يتهمون المقاومة بالتقصير في الإعداد الجيّد، لتوفير عوامل وأسباب الصمود لحربٍ طويلة، وكأنّ القطاع دولة كبرى، ومفتوحة خطوطها على العالم الخارجي.
وأخيراً، يرغب هؤلاء في اللعب على جراح المكلومين في القطاع والضفة، بالحديث المستفيض عن خسائر الفلسطينيين وما أصابهم ولا يكلفون أنفسهم الحديث عن الخسائر الهائلة وذات الأبعاد الإستراتيجية التي تعرض لها الاحتلال وداعموه.
في مناسبة مرور سنة على «طوفان الأقصى»، لا بدّ من استعادة الأهداف الكبرى والإستراتيجية التي أعلنتها دولة الاحتلال وشركاؤها في الأيام الأولى وتم التراجع عنها، بأهداف تكتيكية، ولكن دون التنازل عن تلك الأهداف الكبرى.
إذا كان من المبكّر الحديث عن «اليوم التالي»، ومآلات هذا الصراع الدّامي والمستمرّ، فإنّ قراءة المشهد تشير إلى الحقائق الكبرى الآتية:
أوّلاً، أنّ الفلسطينيين يخوضون مقاومة، وحدهم مع شركاء «المحور»، خصوصاً لبنان واليمن أساساً ثم المقاومة العراقية، في مواجهة تحالف دولي تقودها وتنخرط فيه الولايات المتحدة، والدول الغربية الكبرى.
لم تحقّق المقاومة الانتصار بعد، ولكن أليس مهمّاً أنها نجحت في إفشال أهداف التحالف الدولي الإسرائيلي، وأنّها صمدت ولا تزال صامدة تكبّد هذا التحالف المزيد من الخسائر؟
احتشد العالم الرأسمالي «الغربي»، إلى جانب دولة الاحتلال، وتخلّى عن الفلسطينيين أهلهم من عرب ومسلمين، بل إن بعضهم يتعاون في السرّ والعلن لأسبابه الخاصّة مع دولة الاحتلال.
ثانياً، ألم يؤدِ هذا الصمود إلى إفشال ووقف مخطّطات «التطبيع» التي كانت جاهزة للتوقيع، وأعادت ربط هذا الملفّ بالحقوق الفلسطينية.
لقد أرادت إدارة جو بايدن، وعملت من موقع التحالف المستمرّ والقوّي مع دولة الاحتلال من أجل الفوز بملفّ «التطبيع»، عَبر محاولات التهدئة المؤقّتة ودون التخلّي عن مواصلة الحرب لتحقيق الأهداف الكبرى.
ثالثاً، لقد حقّق الشعب الفلسطيني خلال عام من الصمود والمقاومة اختراقاً إستراتيجياً للمجتمعات «الغربية»، وللمنظومة الدولية، بما في ذلك الولايات المتحدة التي ارتفعت فيها نسبة الداعمين للقضية الفلسطينية إلى 30% حسب آخر الاستطلاعات.
لقد كشفت وقائع الصراع على نحوٍ غير مسبوق مدى زيف القيم التي تدّعي دول «الغرب» مشاركتها مع دولة الاحتلال، حتى أصبحت متّهمة بازدواجية المعايير، ومناهضة حقوق الإنسان، وقيم العدل والقوانين الدولية.
لقد ساهمت غزّة والضفة والقدس خاصة، والشعب الفلسطيني عامة، أيّما مساهمة في فضح وإضعاف النظام الدولي الذي تتسيّد عليه الولايات المتحدة.
رابعاً، لقد حقّقت فلسطين مكسباً هائلاً وتاريخياً، على مستوى الأمم المتحدة ومؤسّساتها، ومنظومة المؤسسات الدولية، ونجحت في عزل الدولة العبرية، وأهمّ حلفائها، ودفعتها إلى قفص الاتهام، باعتبارها دولة فصل عنصري، ترتكب الإبادة الجماعية وكلّ أنواع الجرائم الإنسانية والقانونية.
لقد تفوّقت السردية الفلسطينية على سردية الاحتلال، بعد عقود من الكذب والتزوير التي ساهمت في طغيانها قوى وإمكانيات هائلة.
الحرب لا تزال مستمرّة، ومستمرّ الشعب الفلسطيني بملايينه السبعة على أرض وطنه، ينزح، يجوع، يعطش، يخسر البيت، وينزف الدم، لكنه موجود لأنّه صاحب الأرض.