يمكن وصف إسرائيل بأنها صندوق أسرار، وهي قلما تعلن عما يقع فيها من خسائر، عندما تتعرض لعملية عسكرية، وبعض أسرار «الدولة» فيها، لا يُكشف عنها إلا بعد مضيّ 40 سنة، وهذا حدث فيما يخص تفاصيل جرائم الحرب التي ارتكبتها خلال حربي عامي 1948 و1967، خاصة فيما ارتكبته من جرائم بحق الجنود المصريين، أو حرب العام 73، بالتحديد فيما يخص خسائرها البشرية والمادية، والتفاصيل وراء الكواليس التي رافقت تلك الحرب التي بوغتت بها، كما بوغتت قبل عام، بعملية «طوفان الأقصى» وحيث أُخذت على حين غرة، بما لم تتوقعه، ولم تعتد عليه من قبل.
لكن هذه المرة، كشفت إسرائيل منذ اللحظات الأولى عن بعض أسرار تلك الحرب، حيث اعترفت ومنذ اللحظة الأولى، بأنها فشلت استخباراتياً وعسكرياً في توقع العملية، ومن ثم في التصدي لها، وأن «الطوفان» فاجأها، ورغم أنها وقعت تحت صدمة قاسية، أربكتها لمدة ساعات، إلا أنها سرعان ما بدأت حرب إبادة غير مسبوقة، لا على قطاع غزة، ولا على غيرها، لكن وهذا أمر لم يكن مفاجئاً لإسرائيل وحدها، بل لكل الأطراف والمتابعين، لم تقتصر المفاجأة ولم تتوقف عند حدود عملية «كوماندوز حماس» ليلة السابع من أكتوبر العام 2023 الماضي.
فقد توالت المفاجآت، بحيث تبين بأن هذه الحرب غير كل تلك الحروب التي سبق وعرفها الشرق الأوسط منذ مائة عام، سواء تلك التي كانت إسرائيل دائماً طرفاً فيها، أو غيرها، وعلى غير الحروب السابقة التي سبق وأن شنتها إسرائيل على قطاع غزة أعوام 2008/2009، 2012، 2014، أو حتى حربي العام 2000 والعام 2006 بينها وبين حزب الله، حيث لم يتدخل أحد في حروب إسرائيل على قطاع غزة السابقة، وربما لهذا السبب فإن إسرائيل أساءت التقدير مجدداً، وربما فوجئت، باستجابة ما سُمي لاحقاً بجبهات الإسناد، في كل من لبنان واليمن والعراق، وحتى إيران، وبالطبع الضفة الفلسطينية وحتى داخل الخط الأخضر، ومعروف بأنه حين يتفاجأ أحد طرفي الحرب بها، لا يكون مستعداً بشكل جيد، وحين يظل يتفاجأ بتفاصيلها أو تكتيكاتها، فإنه يصعب عليه الانتصار فيها، هذا إن لم يُهزم فيها، ويبدو بأن هناك أكثر من سبب لظهور جبهات الإسناد هذه المرة، على غير الحروب السابقة على غزة، أول هذه الأسباب هو أن نية إسرائيل لسحق «حماس» كانت مؤكدة، ولهذا فإن أطراف محور المقاومة، وبالتحديد حزب الله أعلن في اليوم التالي للحرب، على لسان أمينه العام الراحل الشهيد حسن نصر الله، بأن المحور لن يسمح بهزيمة حماس.
ورغم معادلة حزب الله الداخلية، إلا أنه أبدع حين لجأ الى الاشتباك اليومي مع شمال إسرائيل، وفق قواعد الاشتباك، التي لا تؤدي الى أن يموت الذئب أو تفنى الغنم، أي أنه أدى الى مشاغلة ثلث جيش إسرائيل عن غزة، والى تشتيت تركيز إسرائيل على غزة، وزيادة الضغط الداخلي الناجم عن تهجير 60 ألف مستوطن إسرائيلي، كما أنه شد من إزر حماس، التي كان متوقعاً لها أن تصمد أسابيع أو أشهراً قليلة بعد القصف الجوي العنيف جدا، يمكن خلالها للعالم بأن ينسى أولاً ما حدث يوم السابع من أكتوبر، ومن ثم أن ينقلب ضد إسرائيل ويضغط لأجل وقف الحرب، انتصاراً للضحايا المدنيين الذين يسقطون بالمئات يومياً.
ويبدو أن السبب الثاني الذي دفع جبهات الإسناد الى التدخل استجابة لنداء الاستغاثة الذي أطلقه القائد العسكري للقسام، محمد الضيف، لحظة الإعلان عن عملية «طوفان الأقصى» كان هو ترسخ تلك الجبهات ميدانياً، فحزب الله مثلاً بات أقوى قوة عسكرية غير حكومية أو غير رسمية في المنطقة، وربما في العالم، وذلك بعد أربعة عقود مرت على ظهوره، ومقارعته إسرائيل بالذات حين كانت تحتل جنوب لبنان، وهي منطقته، حيث الأغلبية الشيعية اللبنانية الفقيرة، بل وصار أهم حزب سياسي في لبنان يتحكم بمقاليد النظام، رغم أنه لا يحكم مباشرة، وهذا دهاء سياسي ما بعده دهاء، فيما الحوثي يسيطر على اليمن رسمياً، بمدنه الرئيسية وجغرافيته الأكثر اكتظاظاً بالسكان منذ عقد ونصف، وهو متمكن منذ وقت طويل في محافظة صعدة شمال اليمن، وقد تمرس خلال هذه السنوات على مقارعة ليس فقط قوات الجيش اليمني السابق، بل والقوات العسكرية السعودية والإماراتية والقطرية من قبل. أما المقاومة الإسلامية في العراق، فهي أيضاً موجودة منذ عقدين من السنين، والأهم من كل هؤلاء، وأولهم إيران، وهي منذ أربعة عقود تواصل تعزيز مكانتها كدولة إقليمية، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
أي أن محور المقاومة أشتد عوده عسكرياً، وصار قادراً على التدخل والإسناد، ومقارعة إسرائيل، وحتى حماس نفسها بعد أقل قليلاً من عشرين سنة، منفردة في حكم قطاع غزة، صارت أقوى بكثير عسكرياً، وقد عملت هذه القوى جيداً خلال تلك السنوات على مواجهة التفوق العسكري الإسرائيلي، بقوته التدميرية، سواء كان عبر سلاح الجو، أو عبر المدافع والدبابات، فلجأت إيران وحلفاؤها، الى التصدي للطائرات المتفوقة لدى العدو تاريخياً وعملياً، بطائرات إف 35 والشبح وغيرها، ليس الى سباق سلاح جو، أي مواجهة الطائرات بالطائرات، بل بالصواريخ والمسيّرات، ولهذا فإن إيران تعد اليوم أقوى دولة في العالم في سلاح المسيّرات، كما أن لديها قوة صواريخ باليستية هائلة، وقد أظهرت هذه الحرب الحالية فعالية مسيّرات اليمن والعراق، وصواريخ فرط الصوت اليمنية والإيرانية.
وأن تستمر الحرب، خاصة في غزة، من خلال عجز وفشل إسرائيل أولا في مواصلة التمسك بالأهداف والشعارات بعيدة المدى، من مثل تهجير سكان قطاع غزة، وإعادة استيطان القطاع، وثانياً في تحقيق الأهداف العسكرية المباشرة، وهي تحرير المحتجزين بالقوة، وسحق حماس عسكرياً، وقتل أو إلقاء القبض على قادتها، حيث لم تنجح إسرائيل إلا في تحرير بضعة رهائن لا يتعدى عددهم أصابع اليدين، فيما قتلت عدداً منهم وحررت جثثهم، وبعد عام كامل، فشلت أيضا في سحق حماس التي ما زالت تشن عليها حرب عصابات، أو حرب استنزاف، لذا فقد هربت إسرائيل الى الأمام، أو الى الشمال بشكل محدد.
والمفاجأة الأكبر من مفاجأة يوم السابع من أكتوبر العام 2023 الماضي، هي أن تستمر الحرب عاماً كاملاً، مرشحاً للتحول الى حرب مفتوحة تستمر أعواماً طويلة، كما هي حروب التحرير الشعبية من الاستعمار الأجنبي، أي كما احتاجت حرب التحرير الجزائرية لسبعة أعوام، ما بين العامين 1954_1961 حتى تنتصر على الاستعمار الفرنسي، وكما احتاجت حرب فيتنام لتحرير جنوبه من القوات العسكرية الأميركية وعميلها الفيتنامي نغوين فان ثيو، الى نحو عشرين عاماً، ما بين عامي 1955_1975، واذا كانت إسرائيل حتى تحقق النصر، لا بد لها أن تفرض حربا وفق إستراتيجيتها العسكرية، أي الحرب الخاطفة، وعلى أرض العدو، فيما محور المقاومة، حتى يحقق النصر، يكفيه أولاً أن يصمد أمام إسرائيل ويمنعها من تحقيق النصر السريع عبر الحرب الخاطفة، ومن ثم جرّها الى حرب طويلة الأمد، يربحها بالنقاط.
اي أن الحرب تكاد تشبه حلبة الملاكمة، حيث عادة ما يسارع الملاكم الأقوى والأعنف، الى استخدام قوته الساحقة منذ اللحظة الأولى ليظفر بالضربة القاضية، فيما الملاكم الأذكى، يهرب من لكماته ويبدأ في إجباره على مواجهة يفقد فيها أعصابه، على أمل أن تستمر المواجهة بجولاتها الثلاث عشرة كاملة، حيث يراهن الملاكم الأضعف على احتمال الفوز بالنقاط.
وخلال السنوات التي مضت، كانت إسرائيل تجمع المواد الاستخباراتية، فيما كانت مكونات محور المقاومة تحفر الأنفاق، وتقيم القواعد العسكرية تحت الأرض، وتصنع المسيّرات والصواريخ، وهكذا فإن حرباً بدأت قبل عام، ليس هناك في الأفق ما يشير إلى أنها ستتوقف في القريب العاجل، وبعد أن تحولت لبنان من جبهة إسناد إلى ساحة حرب ثانية مع ساحة الحرب في فلسطين، فإن توقف الحرب له شروط، ستدل على منتصر ومهزوم، ويبدو فعلاً بأن خارطة الشرق الأوسط باتت مرهونة بنتيجة هذه الحرب، التي لا تقع في فراغ أيضاً، بل هي الحرب الثانية مع الحرب الروسية_الأوكرانية التي اندلعت لإعادة تشكيل النظام العالمي، والنظام الشرق أوسطي باعتباره نظاماً إقليمياً، تركيبته وفق نتيجة هذه الحرب، ستدل على إن كان النظام العالمي أحادي القطب الأميركي سيبقى يحكم العالم، أم أن نظاماً آخر سينشأ بدلاً منه.