بينما كانت إقامة دولة إسرائيل عام 1948، تعني تشكيل الأداة الاستعمارية بهدف السيطرة على شعوب الشرق الأوسط وبالأخصّ الوطن العربي وثرواته، تتحوّل هذه الأداة، إلى عبء على الدول التي صنعتها.
قد يكون هذا الاستنتاج مستعجلاً قليلاً، ولكن الحقائق التي ظهرت خلال العامين 2023، 2024 وهي مستمرة نحو العام القادم تشير، وفق اعترافات إسرائيلية، إلى أنّ دولة الاحتلال ما كان بمقدورها الاستمرار لولا الدعم الأميركي و»الغربي».
هكذا بدلاً من أن تشكّل دولة الكيان الصهيوني أداة لتمكين «الغرب» الاستعماري من التحكّم في شعوب ومقدّرات هذه المنطقة، أصبح على خالق هذا الكيان أن يخدم على مخلوقه.
انهارت هيبة دولة الاحتلال وجيشها الذي لا يُقهر، وانهارت ادّعاءاتها بالقدرة على الدفاع عن نفسها، وحماية الآخرين الذين يتخوّفون من التهديدات الإيرانية، وأبدى بعضهم الذي استعجل «التطبيع» مع الكيان، الاستعداد لدفع أثمان باهظة لقاء حماية لم يحصلوا عليها بل إنها انهارت وفقدت القدرة على الردع.
بل إنّ دولة الاحتلال التي استدعت صناعها الدوليين فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق الأهداف الإستراتيجية للحرب، على الرغم من النجاحات التكتيكية التي حقّقتها.
الإسرائيليون، بما في ذلك وزراء في الحكومة وقيادات من حزب «الليكود»، يعترفون علناً وأمام وسائل الإعلام بأنّ الضغط العسكري، وحرب الإبادة والتجويع، التي تصرّ على مواصلتها حكومة بنيامين نتنياهو لا يمكن أن تنجح في تحرير أسراهم لدى المقاومة.
كما آخرين في «المعارضة»، وقيادات عسكرية وسياسية وأمنية سابقة، يسخر أفيغدور ليبرمان زعيم حزب «إسرائيل بيتنا»، من ادّعاءات نتنياهو ومن هم على شاكلته، إزاء النصر المطلق.
يقول ليبرمان «عن أيّ نصرٍ مطلق يتحدثون، وسكان تل أبيب يهرعون غلى الملاجئ، وجنودنا يقتلون في غزة».
في تصريح ليبرمان أكثر من اعتراف ورسالة، فدولة الاحتلال لم تحقّق النصر المطلق، ولا أفق لتحقيق ذلك، وبالرغم من خروج المقاومة اللبنانية من ساحة الاشتباك، وفقد المقاومة الفلسطينية القدرة على إطلاق الصواريخ نحو تل أبيب، فإنّ الصواريخ «الحوثية» إلى وسط البلاد تزايدت، في الأيام الأخيرة، فضلاً عن الاعتراف بأنّ المقاومة في غزّة بما في ذلك في شمال القطاع، لا تزال نشطة، وقادرة على تدفيع جيش الفاشية أثماناً باهظة.
على أنّ نتنياهو لا يزال يواصل إنكار الحقائق، والادعاء بتحقيق انتصارات وأنّه ينجح في تحقيق الأمن الإستراتيجي لكيانه من جهة سورية، سواء من خلال تدمير مقدّرات الجيش السوري، أو احتلال المزيد من الأراضي السورية بما في ذلك السيطرة على قمم جبل الشيخ الذي يشرف على سورية ولبنان.
دولة الاحتلال أصبحت أحد الأطراف الفاعلة مباشرة في الأوضاع السورية، وقد يكون بذلك قد دخل منطقة موحلة، لا يضمن له الراحة، ما يظهر من تصريحات زعيم «هيئة تحرير الشام» أحمد الشرع، التي يعلن من خلالها أن سورية الجديدة، تنأى بنفسها عن خوض الصراع والحرب مع جيرانها، وهو بالتأكيد يعني الدولة العبرية.
كثرة اللاعبين الدوليين والإقليميين، في سورية، تلقي بأعباء وتعقيدات هائلة وثقيلة على سكان القصر الجمهوري الجدد في دمشق، فالبلاد لا تزال ممزّقة، والاحتلال الأجنبي الأميركي والإسرائيلي موجود، و»داعش» موجودة، وثمّة قوى عسكرية كثيرة تحمل أجندات متضاربة.
شمال القطاع، يقدم نموذجاً يضرب في العمق كلّ ادّعاءات الانتصار أو حتى السيطرة التي يدّعيها نتنياهو.
تعدّدت الحملات العسكرية، على شمال القطاع، بهدف إفراغه من سكّانه، وتدمير بنيته التحتية بالكامل، وتجفيف مقوّمات الحياة من طعام وماء وكهرباء ووقود، والحدّ الأدنى من المستلزمات الطبّية.
نعم، أرغمت دولة الاحتلال آلاف السكان على مغادرة بيوتهم، وأماكن إيوائهم، إلى مدينة غزة، قتلت الكثيرين، واعتقلت الكثيرين، لكن الشمال لا يزال ينبض بالحياة.
يستغرب بعض المسؤولين الإسرائيليين، من أنّ جيش الاحتلال دمّر بيت حانون بالكامل، وبيت لاهيا، حتى لم يعد فيهما أيّ مواطن، لكن المقاومة تواصل العمل في تلك المناطق.
الدكتور حسام أبو صفية مدير مستشفى كمال عدوان، الذي استشهد ابنه، وأُصيب هو الآخر يقدّم خلاصة المشهد الصراعي، فهو يصرّ على البقاء مع من بقي في المستشفى من طواقم، فقد الكثير منهم حياته أو أُصيب.
لا تترك دولة الاحتلال وسيلة، من القصف المدفعي إلى المُسيّرات، إلى «الروبوتات» إلى الطائرات الحربية، إلّا واستخدمتها وتستخدمها لإرغام مدير المستشفى وطواقمه على إخلائه مع من يتواجد من عشرات المصابين.
لا نعلم كم بقي من مباني المستشفى الصغير لم يصله الدمار، والحال ذاته بالنسبة لمستشفى العودة، ومستشفى الرنتيسي، وما بقي من مستلزمات وأدوات إسعافية، لكن الكلّ صامد يرفض الخضوع لنداءات الإخلاء، وشدّة القصف.
أبو صفية، ومدراء المستشفيات الأخرى المتواضعة في شمال القطاع، يلخّصون هوية الفلسطيني الصامد على أرضه مهما كانت الأثمان. إذا كان العالم كله قد بدأ يدرك هذه الحقيقة فإنّ حلفاء دولة الاحتلال المستمرين في دعم حروبها التدميرية الفاشلة، عليهم أن يدركوا، بأنّهم يحملون معاول هدم النظام العالمي ويستعجلون انهياره، الأمر الذي يدخل في حسابات التنافس الدولي لتغيير هذا النظام.
بيدها أميركا والدول الغربية تهدم الأسس والقيم التي قامت عليها الأمم المتحدة، ومكّنت أميركا من السيطرة عليها لعقود، فهل تستفيق هذه الدول لما تفعله ضد مصالحها الإستراتيجية؟