على الرغمِ من الصمتِ الباتِّ، الذي يَفرِضُه الموتُ الحَقُّ؛ إلا أن الرجلَ الذي طُوِيت حياتُه على أحزانِها، يَستحِثُّ النطقَ بلسانِ مَن آلمَهم رحيلُه.
فأحمد عبد الرحمن، المؤسسُ في الإعلامِ الوطنيِّ الفلسطينيِّ، ظل يرمُزُ في السنواتِ الأخيرةِ، إلى ما أصاب جيلا من الوطنيينَ القُدامى، منهم مَن قضَى نحبَه، ومنهم مَن ينتظرُ، وما بدّلوا تبديلاً! أبو يزن، كان صديقاً لكاتبِ هذه السطورِ، وقد اختصه بشيءٍ غيرِ يسيرٍ، من البَوحِ الوجدانيِّ. فكلما احتشدت في داخلِه بعضُ الخواطرِ الأليمةِ، كان يتصلُ ويطلبُ المرورَ عليه، معاتِباً ومنوّهاً إلا أن الانقطاعَ ليوميْن أو ثلاثةٍ، قد أَضجره.
أحمد عبد الرحمن، كان قارئاً نَهِماً وكاتباً مُجيداً. امتلك حساسيةً عميقةً، في التعاطي مع النصوصِ ومقاطعِها اللفظيةِ، وهو في ذلك أشبهُ بعشاقِ الموسيقى، الذين يتفاعلون مع سلالِم النُّوتةِ ومدرجاتِها، بآذانِ السمّيعةِ الراسخينَ في معرفةِ اللحنِ.
ولأن النصوصَ محملّةٌ بالآراءِ، وهو صاحبُ رأيٍ وصوتٍ، ينافحانِ عن إرثِ الثورةِ، وعن مشروعيةِ منظمةِ التحريرِ الفلسطينيةِ، وعن تجرِبةِ الشهيدِ الباسلِ الرمزِ ياسر عرفات وتاريخِه، فقد ظل حتى الرمقِ الأخيرِ، يُدلي برأيه من غيرِ مِنبرٍ سوى وسيلةِ التواصلِ الاجتماعيِّ.
فقد جافَتْه في السنواتِ الأخيرةِ لواقطُ الصوتِ الموصولةُ بكاميراتِ التلفزةِ، التي وَجدت ضالتَها في سواه من العائمينَ على السطحِ، كبقعِ الزيتِ التي تُغطي ما تحتَها من ماءٍ شفافٍ. منذ منتصفِ الثمانينياتِ، حتى منتصفِ التسعينياتِ، أي منذ أن كان الزعيمُ أبو عمار بيننا؛ قرأ أحمد عبد الرحمن المشهديْنِ الإقليميَّ والدوليَّ، وراق له مشروعُ محمود عباس، إذ لم يجدْ ما يساعدُه على التفاؤلِ، سوى مشروعِ عباس، فحَمَله سياسياً على ظَهرِه، حتى أَدخلنا عباس ومشروعُه إلى القفصِ الحديديِّ المغلقِ علينا.
عندما تطيَّر الكثيرون من هذا المشروعِ قبل أن تبدأَ تطبيقاتُه وأن تُباغِتَنا أوسلو، وكان كاتبُ هذه السطورِ، من بين المتطيرين؛ بادَر أحمد عبد الرحمن، إلى فتحِ نقاشٍ مع أصحابِ الأقلامِ، ممن أُتيح له اللقاءُ بهم، واحداً واحداً، في الملجأِ التونسيِّ البعيدِ. فهو الأمينُ العامُّ لاتحادِ الكتّابِ والصحفيينَ، وله دالةٌ على الفتحاويينَ منهم، وكان يُردِّدُ مقولتَه: "نفتقرُ الآنَ لأيِّ مطبخٍ سياسيٍ ما خلا مطبخَ عباس، وليس أمامَنا سوى مساندتِه، فلعل الأمورَ تَجري مثلما نتمنَّى".
غيرَ أن الأمورَ، جرَت بعد أوسلو، على النقيضِ مما نتمنَّى، فَخَفَتَ صوتُ أحمد عبد الرحمن، والتزم وظيفةَ الاستشارةِ إنِ استُشير. وكان طبيعياً ألا يجدَ مكاناً لجملتِه السياسيةِ ومفرداتِها. فهو ـ رحِمه اللهُ ـ من النوعِ الذي لا يجدُ نفسَه بعيداً عن مظلةِ المشروعيةِ، حتى ولو كانت تَدلِفُ ولا تَحمي أحداً من أيِّ انهمارٍ.
فلا مظلةَ يمكنُ أن نستعيضَ بها عن المظلةِ المخرومةِ، وهذه وجهةُ نظرٍ، لا ننازعُ أصحابَها فيما يعتقدون بها، مع قناعتِنا بأن فحوى المشروعيةِ، يكمُنُ في صوابِ الوِجهةِ، وصوابِ اللغةِ السياسيةِ، ومنهجياتِ العملِ الوطنيِّ بأبعادِه التاريخيةِ والاجتماعية! مضت السنونُ، وكلما ازداد أحمد عبد الرحمن صَمتاً، واضطر لالتزامِ مكتبِه لكي لا يفتكَ به الفاتكُ الممتلئُ بالبغضاءِ للكبارِ والقُدامى والشبابِ الطامحِ إلى استعادةِ ألقِ الحركةِ الوطنيةِ. ظل يقرأُ ويتابعُ ويدافعُ عن إرثِ النضالِ الوطنيِّ الفلسطينيِّ، بالقدرِ الممكنِ ودونما منابرَ.
استغل مساحاتِ الزمنِ الخالي من مهامِّ عملٍ بالكتابةِ عن الزعيمِ ياسر عرفات، فأنجز كتابيْن من أروعِ وأصدقِ ما كُتِب عن الزعيمِ مفجرِ الثورةِ، وقد وضَع في الكتابيْن، ذَوبَ رُوحِه وبرهانَ وفائِه.
عندما انتهى من كتابِه الثاني، طلب من كاتبِ هذه السطورِ تقديماً له ففعل. كان يتابع ما تَخطُّهُ أقلامُ الكُتّابِ، فيقتربُ ممن تروقُ له نصوصُهم، فيصادِقُهم ويُؤسسُ معهم عَلاقاتٍ حميمةً، من خلالِ جَلَساتٍ طويلةٍ في منزلِه، تنُمُّ عن حقيقةِ وجهاتِ نظرِه.
بل زاد على ذلك ففاجَأ عدلي صادق، بنشرِ كتابٍ يضمُّ مجموعةً منتقاةً من مقالاتِه، بعنوان: "في قضايا الساعةِ"
. كان رجلاً من أهلِ الموالاةِ، حيّرته مجافاةُ عباس له، كان يردِّدُ استفهاماً إنكارياً: "ماذا فعلتُ، لكي يجعلَني وأنا في المقاطعةِ، أَنتظرُ لشهريْن قبل أن يوافقَ على مقابلتي؟".
ويحاولُ الإجابةَ: "لعلهم يتنصّتون على المكالماتِ، وسمِعوا جملةً أو رأيا أزعجه". لا موجبَ للقولِ أكثرِ من ذلك، تحاشياً لمَظِنّةِ استغلالِ موتِ الراحلِ العزيزِ، وجعْلِها موضوعاً للنيلِ من رئيسِ السلطةِ، الذي لا يختلفُ اثنان على كونِه عديمَ الوفاءِ وأدار ظهرَه لطابورٍ من الأحياءِ والأمواتِ، أصحابِ الفضلِ عليه.
رحِم اللهُ أحمد عبد الرحمن، الذي حمَل أحزانَه وحُلمَه المنكسرَ ورحَل إلى عالمِ الأبدية.