نداءات بالجملة فمَن يستجيب لها؟
بعد مهرجان غزة الأخير في ذكرى الإنطلاقة، سُمعت العديد من النداءات بإنهاء معاناة غزة، بدءاً بإنصاف منتسبي حركة فتح فيها، الذين استهدفوا في مقومات حياتهم بجريرة الإنقسام. وكان موجهو النداءات يبدأون كل مناشدة قائلين: ها هي غزة التي بقيت على عهد الولاء والوفاء!
وفي الحقيقة، تغاضى المنادون، تلطفاً وتسهيلاً لنيل حقوقهم؛ عن الجذر النفسي ـ كما يصح الوصف ـ لدى المشتغلين على خط الإقصاء والإفقار وتخليق البؤس في غزة، وخاطبوا صاحب قرار الإقصاء، كما لو أنه يجهل أن الوطنيين في غزة ثابتون على عهد الولاء، وكما لو أنه لم يرَ مهرجاناً مليونياً من قبل، ولم يُلق فيه كلمه هادرة، كتبها صاحب هذه السطور له. وكأن مثل هذه النداءات، لم توجه اليه بعد ذلك المهرجان في الرابع من يناير 2013.
قرار الإقصاء، يكرس منهجية معتمدة، إشتغل عليها المناطقيون، كما لم يشتغلوا على شيء من قبل، بحماسة وقناعة، وفي توافق استثنائي بينهم. فالرواية طويلة ولا حصر للأمثلة الدالة على طبيعة عقدتها وحبكتها، وقد شملت كل أجهزة السلطة ومؤسساتها. وهي، في مجملها، تدل على أن حركة التحرر الفلسطينية، بعد الشهيد الرمز الباسل ياسر عرفات، ثم بعد انقلاب حماس، شهدت تغييرات متسارعة، في نوعيات وسلوك عناصر الصف الأول، عندما تحولت من فريق عمل وطني الى حاشية، ومن جماعة بدل أن تضع عينها على الكثير الكثير الذي لم نحققه، أو بالأحرى بدل أن تضع عينها على واقع الفشل، فتنظر في كيفية التحرك لاستعادة القدرة على المضي في الكفاح الوطني الشامل الجامع؛ نظرت الى ما في اليد وتحسست بهجته إذ توهمت أن له بهجة، وهو عبارة عن محض سلطة، لها امتيازاتها حتى وإن كانت مقيدة وبائسة على أرضها. ووفق هذه الثقافة وهذه المعادلة، كان سباق أعضاء الحاشية على المغانم واضحاً، لا قدرة للناس في غزة على الخوض فيه. فمنطقتهم المحاصرة، وقعت في قبضة القوة التي زعمت أن لديها مشروعاً اًبديلاً ، وهو الزحف المقدس والمؤزّْ لتحرير كامل فلسطين!
في السياق، نشأت في أوساط السلطة في الضفة، النعرات المناطقية الفرعية، وظل إقصاء غزة نقطة اتفاق ضمني بين المتنفذين، لا يحتاج الى الكلام. بالعكس كان الكلام المتفق عليه ضمنياً أيضاً، هو إظهار التأسي على غزة والحَنَق على حماس التي اختطفت أعز ما يزعمون أنهم يملكون، وهو الوحدة الوطنية، باعتبار أن غزة إحدى أهم ضمانات حركة التحرر وهويتها!
في ذلك السياق، قيل بعض كلام الحق الذي يُراد به باطل، من بينه أن استعادة غزة بالقوة، تخالف تقاليد العمل الوطني التي ترفض بالمطلق، الإحتراب والاقتتال. لكن السؤال الذي ظل قائماً على مر السنوات بلا إجابة هو: ماذا نفعل إذاً؟ فبديل الإستنكاف عن الإقتتال هو السعي الى مصالحة. لكن الذي حدث هو العمل من الجانبين ضد أية مصالحة. لقد اتضح بما لا يدع مجالاً للشك، أن كل طرف سيظل متشبثاً بما في يده. وعلى الرغم من انزياح الطرفين، كلٌ عن الفحوى الحقيقي لما يباهي ويتشبث به، وهو مؤسسات الشرعية الدستورية في رام الله، وبرنامج المقاومة في غزة؛ إلا أن لغة المحاججة لم تتغير. فكل من الطرفين، لا زال يزعم لنفسه، المعنى القيمي لدوره ولأسباب عناده: الشرعية والمقاومة، علماً بأن كلاً منهما، قطع شوطاً طويلاً في الإتجاه المعاكس لهاتين القيمتين!
مطولات كتيرة من الكلام، طُرحت في إطار النصيحة، وركزت عل الشيء الوحيد الذي نحتاجه، وهو بناء استراتيجية عمل وطني واحدة، وكيان سياسي واحد ومهاب، يحكمه القانون الذي تنحني له كل الهامات، ولا ينزلق فيه المتنفذون الى سياسات خاسرة، والى مناهج أمنية معيبة، وفي الوقت نفسه لا يندفعون الى حروب خاسرة، ولا يرون وظائف السلطة مغانم ذات امتيازات.
في خضم هذه الخيبة، أحيلت الثقافة الوطنية الى مُتحف الذكرى، وتلقت غزة الطعنة من الطرفين. وفي الضفة، أصبح المجتمع، بشبابه الطامح المثابر وفتيته الوطنيين وعائلاته المناضلة وريفه الأشم، تحت قبضتين أمنيتين. وعلى جانبي الإنقسام، توهم كل متنفذ واهم، أنه يبني لنفسه شعباً ومجتمعاً، مستأنساً بإشارات وانطباعات فَرَضيّة، على صفحات التواصل. تبعثرت الفكرة الأساسية بل توغلت الى الوراء، حتى بات جائزاً في كل يوم فتح سجال حول أي شي.
ولأن مثل هذا المشهد، يجعل حتى الأمال تتواضع، فإننا بتنا نسمع النداءات والمناشدات، التي تلتمس من السيد الرئيس، إعادة بعض الحق لأصحابه، وتحاول إقناعه بأن الناس في غزة، لم ترتكب ذنباً، وهي سعيدة بقيادته الرشيدة الطهرانية التي لا تخطيء!
قدمت النداءات، مرة أخرى، برهانها على الولاء والوفاء لفتح، ومن ذا الذي يرى في نفسه أميناً على تاريخ هذه الحركة، لكي يلبي كل نداء؟