ان بناء الدولة الحديثة لابد ان يتم في ظل مشروع وطني ديمقراطي خاصة في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ الشعب الفلسطيني, لان البناء الديمقراطي الحقيقي يتطلب صدق في النوايا والعمل في آن واحد, والحقيقة انه منذ إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية, والهاجس الفلسطيني الاكبر هو بناء مؤسسات الدولة انطلاقاً من إيمان عميق أن الدولة التي ترتكز إلى مؤسسات قوية وفاعلة لهي قادرة على مواجهة كل ما قد يعتريها من صعاب. وقد استطاع ياسر عرفات تحقيق جزء من هذا الحلم باقامة السلطة ومؤسساتها الامنية والمدنية واقرار القانون الاساسي كخطوة على طريق اقامة الدولة الديمقراطية الحديثة, دولة لكل الفلسطينيين باختلاف اماكن تواجدهم وباختلاف مشاربهم السياسية, وقد اعلن الرئيس عباس (أبو مازن) في برنامجه الانتخابي، إنه سيعمل على إرساء نظام المؤسسات، بدل نظام الفرد الواحد, الا ان ذلك الحلم سرعان ما تراجع و تعرض لهزة عنيفة عام 2007 بفعل الانقسام وسيطرة حركة حماس على قطاع غزة بقوة السلاح, الامر الذى تسبب بوجود شرخ كبير في جميع مؤسسات السلطة, وباتت هناك سلطة اخري تحكم قطاع غزة ولها مؤسساتها الخاصة بها, واشتدت وتيرة الصراع رغم الجوالات المتكررة لتحقيق المصالحة الا ان هناك العديد من الاسباب لدى كل طرف كانت تحكم قضية الصراع والتناقض علماً ان حركة فتح وعبر ادبياتها وتاريخها العريق حددت مفهومها للصراع اثناء مرحلة التحرر الوطني حيث أكدت ان التناقض الفلسطيني ينقسم الى تناقض داخلى ثانوى وتناقض رئيسي واساسى, أما الاول فهو الصراع الداخلى بين الفصائل والتنظيمات والانقسام المتواصل وتغول اجهزة الامن على حياة المواطنين تحت شعارات ومبررات عديدة والصراع ضد الفساد. اما التناقض الرئيسي والاساسي هو بين الشعب الفلسطيني الذي يناضل من أجل تحقيق أهدافه الوطنية في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وبين الاحتلال الإسرائيلي الذي يعمل على تمرير مخططاته التوسعية, من هنا تأتي اهمية تغليب اولوية التناقض الرئيسي على الثانوى, وضرورة تحقيق الوحدة والمصالحة باعتبارها مطلب مقدس والوحدة اقصر الطرق لاجتثات الاحتلال.
كما ان هناك أسباب اخري ساهمت في تراجع فكرة دولة المؤسسات حيث امتدت هيمنة المؤسسة الأمنية إلى المجال السياسى بسيطرة قادة الأمن الرئيسيين على معظم المناصب السياسية العُليا على صعيد محافظات الوطن, وبذريعة مشروع الدولة المستقبلية، نشأ ذلك التلازُم والتماهى التام بين القيادة السياسية والأمنية حيث يبرر القادة السياسيون تصرفات الأجهزة الأمنية، بينما تحمى الأجهزة الأمنية القيادة السياسية، من هنا فرضت هذه الهيمنة مستوى آخر من السلطة البوليسية. وشرعنت الاعتقال السياسي وقطع الرواتب وعقوبات غزة وغيرها من الاجراءات التي ادت الى المزيد من الشرخ والمعاناة للشعب الفلسطيني.
إن تجاوز الازمة التي تعصف بالنظام السياسي الفلسطيني يحتاج إلى الاختيار بين مجموعة الخيارات الممكنة واهمها المصالحة والتوافق على الانتخابات كخطوة قد تؤدى الي وجود حلولا لقضية الانقسام وتحقيق وحدة النسيج الفلسطيني, بالاضافة الي تجديد الشرعيات المتأكلة منذ اكثر من اثني عشر سنة, كما أن المحاججة بتغير وضع السلطة وانتقالها إلى الدولة لا يعني بأي حال من الأحوال عدم الخضوع لأحكام القانون الأساسي واحترم نصوصه المتعلقة بتراتيب السلطات، وشرعية مؤسساتها السياسية القائمة على الانتخاب من قبل المواطنين وخضوعها للمساءلة الشعبية الدورية، ومشروعية عملها, حيث يجب أن لا تتضارب المجهودات أو تتناقض أو يكون بعضها على حساب البعض الآخر، فليس من حق أحد هنا أن يقع في الخلل، وليس من حق أحد هنا وهناك أن يضعف وتائر الصمود والتحدي ورص الصف الوطني الفلسطيني، وليس من حق أحد أن يخل بمسيرة الوصول إلى هدف أقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف, الامر الذي يستوجب ممارسة عملية تثقيف مستمرة و ضرورة لفت الانظار الى اهمية الديمقراطية في المجتمع الفلسطيني , وتفعيل دور منظمات المجتمع المدني, وان يصاحب ذلك نمو في البناء الديمقراطي ومحاولة تحسين شروط الحياة الكريمة لكافة مواطني الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية والقدس, وفقاً للقوانين الفلسطينية التي هي بمثابة الركائز والدعائم الأساسية لبناء دولة المؤسسات المنشودة، ولا يمكن بناء دولة من هذا النوع إلا بالالتزام الحقيقي بتلك القوانين ذات السلطة الثابتة، دولة المؤسسات دولة الكل الفلسطيني على حدود ما قبل الرابع من حزيران عام 1967م, ومن حقنا الاستعانة بكافة الوسائل الدبلوماسية والسياسية والقانونية من أجل تحقيق ذلك وافشال صفقة القرن وغيرها من المؤامرات التي تستهدف الوجود الفلسطيني كله .