يظنُ أو يعتقدُ البعضُ أن فلسطين باتت نموذجا جديدا لإختفاء الكيانات ومصادرة الهوية والإنتماء، كما حصل مع العديد من الكيانات، خصوصا في العالم الجديد بعد ان جرى اكتشافه، ثم استيطانه واستعماره من قبل كتل بشرية ودول استعمارية غربية، وشنِ الحروب العنصرية على سكانها، القائمة على أساس من التطهير العرقي واجتثاث هوية من تبقى من السكان الاصليين في تلك الأوطان، وإحلال ثقافة وهوية المستوطن والمستعمر الجديد لها مكان ثقافة وهوية سكانها الأصليين. كذلك ما جرى مع الدولة العربية الاسلامية في الأندلس قبل ستة قرون، بعد حكم عربي إسلامي حضاري ثقافي مزدهر، دام فيها أكثر من ثمانية قرون متواصلة، ثم آل إلى الضعف والتفكك ثم الزوال والإختفاء، بعد حروب ومقاومة دامت قرنا كاملا من الزمن بين سكانها من العرب والمسلمين وبين الإسبان، حتى تأتى وتسنى للإسبان إنهاء الوجود العربي الإسلامي في الأندلس ، إثر ممارسة حرب عنصرية دينية بشعة قامت على أساس التطهير العرقي لكل ما هو عربي وإسلامي وغيره من اليهود من سكان الأندلس، ودفعهم للهجرة الى بلاد المغرب العربي، وقد فرض التَحوُل على من تبقى واستسلمَ من السكان عن عقيدته وهويته، أو المغادرة من خلال ما عُرِفَ بمحاكم التفتيش، رغم أن المقاومة العربية الإسلامية فيها قد استمرت قرنا كاملا من الزمن حتى استتب الامر فيها للإسبان. فلسطين اليوم التي تعرضت للغزو الإستعماري الصهيوني الكلونيالي الإستيطاني الغربي، الذي توافق مع الحركة الصهيونية.. في محو هويتها الوطنية والقومية والدينية، لأجل جعلها وطنا قوميا يهوديا خالصا، قد باء بالفشل. لقد استخدم الكيان الصهيوني كافة أشكال القمع والترهيب لشعب فلسطين، من ممارسة سياسات التطهير العرقي والتهجير، كما حصل خلال سنوات الإستعمار البريطاني، والتي توجت في سنتي ١٩٤٧ و١٩٤٨ م، و قد جرت شرعنة الإغتصاب بموجب قرار التقسيم رقم١٨١ الصادر عن الجمعية العامة لسنة ١٩٤٧م، ليسبغ مشروعية باطلة على كيان الإغتصاب، الذي لم يكتفي بما خصصه له هذا القرار الجريمة، بل توسع ليغتصب مانسبته ثمانية وسبعين بالمائة من أرض فلسطين، ويكمل احتلال ما تبقى منها في حرب العام ١٩٦٧م ..! لكن الشعب الفلسطيني رغم ضعف امكانياته، استمر يقاوم بكل اشكال المقاومة، وبقي مُتشبثا بحقوقه الوطنية في وطنه، مُتمسكا بهويته العربية الإسلامية والمسيحية، رغم كل الإجرات التعسفية، وما نتج عنها من تهجير لنصف الشعب الفلسطيني إلى خارج فلسطين، واتساع نطاق سياسات الإستيطان اليهودي، ومصادرة الأراضي الواسعة من مًلاكها الفلسطينيين، وحصر ومحاصرة من تبقى منهم صامدا، سواء في الاراضي المحتلة عام ١٩٤٨م أو المحتلة في العام ١٩٦٧م، إلا أن نصف الشعب الفلسطيني اليوم يعيش داخل فلسطين التاريخية، ويزيد عدده عن عدد مجتمع الإستيطان اليهودي الصهيوني، ما يخلق لهذا الكيان الغاصب ازمة وجودية عميقة، يستحيل التغلب عليها، كي يضفي الصبغة اليهودية الصهيونية على فلسطين الأرض والشعب، ومصادرة هويته وثقافته وعقيدتة، لإفتقاد هذا الكيان اصلا لهوية ثقافية وحضارية ودينية قادرة على مواجهة ومحو ثقافة وحضارة وعقيدة الشعب الفلسطيني، القائمة على التنوع والتسامح والراسخة كل الرسوخ، على الارض وفي وجدان ووعي الشعب الفلسطيني وأمته العربية بمسلميها ومسيحييها، ذلك ما يمثل العقبة الكأداء أمام المخطط الصهيوني العنصري، الهادف إلى طمس ومحو هذه الهوية العربية الفلسطينية لإقليم فلسطين، الثابته والمقاومة والعصية على الذوبان أو الزوال، والتي يقرُّ بها المجتمع الدولي كافة، ويؤكد على عدم إمكانية تجاوزها، ذلك ما يزيد من تعميق أزمة الكيان الصهيوني، ولن يُجدي حلها بكافة الأساليب الاستعمارية التقليدية، التي لازال الكيان الصهيوني أسيرا لها ويمارسها، والقائمة على العنف والإرهاب وإنكار حقوق الفلسطينيين الثابته في وطنهم من النهر إلى البحر. إن الازمة السياسية الخانقة، التي يواجهها اليوم نظام الحكم في كيان الإغتصاب، والمتمثلة في عدم قدرته على تشكيل حكومة أغلبية، أو حتى حكومة وحدة وطنية، بعد ثلاث انتخابات برلمانية في غضون سنة، تكشف عن عمق أزمته الوجودية والهوة الهوياتية والحضارية، في مواجهة الهوية الوطنية الفلسطينية، كما تكشف وتؤكد على أن الهوية الوطنية الفلسطينية العربية،
لازالت هي المكون الأساسي لإقليم فلسطين، سواء منه في الجزء المحتل عام ١٩٤٨م أو في الاراضي المحتلة في العام ١٩٦٧م. من هنا نقول ونؤكد ان فلسطين، ليست ولن تكون اندلسا جديدة، وستبقى فلسطين مُلكُ شعبها العربي الفلسطيني وستبقى هويتها عربية إسلامية مسيحية متسامحة ومتنوعة، رافضة لكل أشكال العنصرية، يهودية كانت أو غيرها. بقلم د.