هذا السؤال يدور في أذهاننا جميعاً، ويدور في أذهان الإسرائيليين، وأذهان الكثير من الأميركيين.
وفي الإطار الإقليمي والدولي الأوسع يدور نفس هذا السؤال ويتم طرحه ومحاولات الإجابة عنه من زوايا متعددة.
راهنية وإلحاحية هذا السؤال في ظل حالة «الترنّح» السياسي للرئيس ترامب، وفي ظل «تفوّق» الحزب الديمقراطي على الحزب الجمهوري، و»تفوّق» جو بايدن على ترامب تكتسب أهمية خاصة، وتنقل السؤال من الدائرة النظرية والتنبُّؤية إلى الدائرة العملية السياسية المباشرة.
وقد يمتدّ الأمر إلى مستقبل اليمين في العالم، كما يكتسب هذا السؤال أهميته المحورية في ظل التوقعات بسقوط خطة «السلام» الأميركية، التي اصطلح على تسميتها «صفقة القرن»، وهو أمر سيؤدي في أغلب الظن إلى انهيار برنامج اليمين القومي والديني في إسرائيل، ما سيمهد لتصدع سياسي سيؤدي حتماً إلى سقوط نتنياهو في المدى السياسي المنظور إن لم يكن هذا السقوط مباشراً وآلياً.
يفترض هذا السيناريو أن «يتم» هذا السقوط بوساطة الانتخابات على الصعيد الأميركي، وسياسياً وربما انتخابياً في إسرائيل كذلك.
لكن ثمة سيناريوهات محتملة لهذا السقوط على الجانبين من خارج نطاق الانتخابات.
مع تزايد حظوظ فوز جو بايدن بالمقارنة مع ثلاثة أو أربعة شهور خلت، ومع الأداء الأهوج والأحمق والأخرق أحياناً لترامب في التعامل مع الجائحة، ومع الانهيارات الاقتصادية في قطاعات مهمة من الاقتصاد الأميركي، وتبخّر المراهنات «الترامبية» على «الإنجازات» الاقتصادية بعد هذه الانهيارات، وفي انتظار المزيد من التصدعات في باقي القطاعات مع استمرار الاحتجاجات الشعبية، ومع مخاوف حدوث أو قدوم موجات جديدة من فيروس «كورونا»، ومع الانقسامات الجديدة بداخل الإدارة وصولاً إلى وزير الدفاع، ومع مجاهرة شخصيات وازنة في الحزب الجمهوري بالاستياء من أداء الرئيس والإدارة، والخطر الذي بات يمثله هذا الأداء على سمعة الحزب الجمهوري ودوره ومكانته في المجتمع الأميركي.. أصبح النجاح في الانتخابات صعباً، وأصبحت فترة «التعويض» التي تفصلنا عن يوم الانتخابات قليلة وقصيرة وغير مضمونة، وأصبحت المعادلة هي البحث عن البقاء في الإدارة بأي ثمن.
إذا انحازت كتلة وازنة من الحزب الجمهوري لخيار الانتخابات ـ بصرف النظر عن واقع استطلاعات الرأي ـ فستزداد معادلة البقاء في الإدارة «بأي ثمن» صعوبة وتعقيداً، أما إذا انحازت كتلة كبيرة أو مؤثرة من هذا الحزب لخيار البقاء في الإدارة بأي ثمن فإن الانتخابات لن تعود مرجّحة والإمساك بالسلطة سيكون هو الاحتمال الأرجح.
مكمن الأزمة هنا في هو أن الرئيس ترامب على مدى ما يقارب الثلاث سنوات ونصف السنة لم يكن يعبر عن نفسه، بقدر ما كان يعكس توجهات منظومة يمينية أميركية جديدة، صاغت استراتيجيتها على أساس فرض هيمنة الولايات المتحدة كزعيمة وقائدة لهذا العالم، في وقت بدأت فيه بفقدان هذا الدور بالاعتماد على قوتها الاقتصادية، وتراجع دورها الشامل على الصعيد الكوني العام.
بهذا المعنى ليس أمام ترامب فرصة للتراجع أو الانسحاب من أداء كهذا، ومن استراتيجية كهذه، لأن اليمين المتطرف والذي له بعض السمات الفاشية البائنة بينونة كبرى لن يسمح له بذلك، بل ويمكن أن يكون هذا اليمين نفسه بات بحاجة إلى استبداله.
ليس مستبعداً في هذه الحالة أن يتم «اختفاء» الرئيس في ظل فرض حالة «طوارئ» تتيح إحداث «الانقلاب «المطلوب، و»بنس» جاهز تماماً.
أما إذا بقي الرئيس ترامب «وفيّاً» لهذه الاستراتيجية فسيحدث الانقلاب على الديمقراطية ـ إذا لزم الأمر ـ بوجوده، وتحت قيادته من جديد، وسيسهل عليهم استبداله في الوقت المناسب.
في إسرائيل سيحدث على الأرجح سيناريو مشابه من حيث الجوهر، مع بعض الاختلاف في الشكل، وبعض التفاصيل المرتبطة بالوضع الخاص فيها.
لم يتوقع نتنياهو في أسوأ كوابيسه أن يترنّح ترامب، ولم يخطر بباله أبداً أن صديقه آيل للسقوط، وأن صفقته ستذهب معه، وأن اليمين الإسرائيلي الذي حرق كل أوراقه في ساحة الولايات المتحدة سيقف «وحيداً» في معركة «الضم» التي بنى كل استراتيجيته عليها.
لقد تنفّس نتنياهو الصعداء بعد تسلل غانتس إلى وكر اليمين في إسرائيل، واعتقد واهماً أن الأمور قد هانت، وأن حكومة الرأس ونصف الرأس ستحل له أزمة لائحة الاتهام، وأزمة «الضم» إذا تمكن من الإقدام عليها ولو جزئياً إذا تعذّر كلياً.
كما أنه (أي نتنياهو) لم يتوقع ردة الفعل الفلسطينية التي نراها، ولا حتى العربية الرافضة للضم، ولم يكن متيقناً من أن ردة الفعل الدولية يمكن أن تصل إلى ما وصلت إليه.
راهن على الانقسام الفلسطيني، وما زال، وراهن على حالة الوهن العربي وما زال، وراهن على تراخي وانشغال العالم وما زال.
اليوم نتنياهو يجد نفسه أمام معارضة داخلية، ومن داخل معسكر اليمين نفسه، وهو يواجه معارضة متصاعدة من الأوساط العسكرية والأمنية، كما أنه بدأ يلمس جدية الموقف الفلسطيني، وبعض الجدية المؤثرة في المحيط الإقليمي وخاصة الموقف الأردني، ونسبياً الموقف المصري والسعودي، وبدأ يدرك عدم خضوع العالم، وخصوصاً الأوروبي منه لمعادلة الارتخاء والانشغال.
ولهذا فليس أمام نتنياهو إلا التراجع إذا ما أراد البقاء في رئاسة الحكومة والاكتفاء بإعلان استعراضي بفرض السيادة على المستوطنات، وإرجاء «الضم» إلى ظروف قادمة، وهو لن يسلم السلطة إلى غانتس إلاّ بعد التخلص من أزمة لائحة الاتهام، وحينها لن يعجز أبداً عن افتعال أزمة إما لحالة طوارئ أو لانتخابات جديدة.
وسيواجه بالضبط ما يواجه ترامب. إما البقاء في السلطة ومواجهة معارضة الداخل والإقليم والعالم أو الاختفاء من المشهد السياسي.
أصبح المصير واحداً والخاتمة إياها.