تزامَن إصدارُ نسخةٍ جديدةٍ، من شهادةِ حُسنِ السيرِ والسلوكِ لإسرائيل، مع إصدارِ نسخةٍ أخرى جديدةٍ، من شهادةِ انتهاءِ صلاحيةِ الفكرةِ المُعلبةِ، التي يسمونها المصالحةَ. وفي الحقيقةِ، نحن مضطرون هذه المرةَ، الى إلقاءِ اللائمةِ على الذين صدّقوا عباس وحاشيتَه، عندما زعموا أنهم أنهوا العملَ بالاتفاقياتِ مع إسرائيل، وأوقفوا التنسيقَ الأمنيَّ. فهؤلاء عندما اشتغلوا على مؤتمرِ بيروت؛ كان ذلك لتبليغِ الرسائلِ واختبارِ الآراءِ. وتعمدوا القولَ بعد المؤتمرِ، إن الفصائلَ هي التي سُتقرِّرُ، وكان الهدفُ أن تصلَ الرسائلُ الى عناوينِها!
على امتدادِ سنواتِ هذه المهزلةِ التي توالت فصولاً، جرّب الناسُ عباس ألفَ مرةٍ، وهو يلعبُ بالقوى السياسيةِ وبالفصائلِ، لكي تظلَّ تَحومُ حولَه وترجو منه وِداداً، ويظلُّ هو يستهلكُ الوقتَ، لكي يبقى متفرداً بالمقدراتِ الماليةِ وبالقرارِ السياسيِّ. لكنّ الرجلَ سيواظبُ على الكذبِ حتى الموتِ، طالما أن هناك مَن يصدقون وينتظرون منه شيئاً مفيداً، أو يقبضون وعوداً جديدةً، فيمتدحونه عليها، حتى يتبينَ لهم أنه فعل العكسَ. إن ما يساعدُه على تسويقِ تفوهاتِه ذاتِ المنحى الوطنيِّ الذي ينُمُّ عن عنادٍ؛ هو أن إسرائيل، تتيحُ له هامشاً من الكلامِ، طالما أن الرجلَ كلما تحدث عن التزامِه بالتنسيقِ الأمنيِّ، ترتسمُ على وجهِه ابتساماتُ الإعجابِ بالنفسِ، كأنه استحق جائزةَ نوبل للسلامِ. فإسرائيل لا تنزعجُ من الكلامِ الهجائيِّ، ولعباس أن يشتمَ نتنياهو وترامب براحتِه، طالما أن إسرائيل تريدُ العنبَ وغيرَ مضطرةٍ لمقاتلةِ الناطور!
في مسألةِ أموالِ المقاصةِ، اختار عباس معركتَه مع نفسِه. فهو الذي امتنع عن استلامِ الأموالِ الفلسطينيةِ، وهو وحاشيتُه الذين يزفون الآن بشرى الانتصارِ على الذاتِ، مع التعليلِ السخيفِ الذي يصنعُ نصراً مزوراً أثار سخريةَ الشعبِ الفلسطينيِّ. أما كيف قرروا أن يستلموا، فقد قيل إن الأوربيينَ طالبوا بقوةٍ بأن يستلمَ الطرفُ الفلسطينيُّ أموالَه، قبل أن يمدَّ يدَه لطلبِ المعونةِ. وهذا كلامٌ ذكرناه في اليومِ التالي لرفضِ استلامِ الأموالِ، وقلنا إن المقاصةَ يمكنُ أن تأتيَ عن طريقِ طرفٍ ثالثٍ، إذا كان عباس حقاً يقاطعُ إسرائيل. وأغلبُ الظنِّ، إنْ رفْضَ استلامَ الأموالِ، كان في حقيقتِه درساً وقرصةَ أُذنٍ للكادرِ الوطنيِّ، لكي يتعلمَ بعضَ النقاطِ التي يريدُ عباس أن يُعلِّمَها للكادرِ. فقد كان واضحاً أن هناك أهدافاً أخرى. وإن كانت الذريعةُ أن الأموالَ وردت ناقصةً؛ يمكن التحركُ سياسياً لاسترجاعِ الناقصِ، وعندئذٍ لن يسخرَ العربَ والأوروبيون وغيرُهم، من قرارِ عباس.
الآن يعودُ رئيسُ السلطةِ الى الاستلامِ ضمن رزمةٍ من الفوائدِ لإسرائيل، وأخطرُها الفتكُ بالإجماعِ الفلسطينيِّ الهشِّ على مواجهةِ الحلِّ الإسرائيليِّ بمسمياتِه الكثيرةِ، وسدِّ الطريقِ أمام إنهاءِ الانقسام، لأن حماس حتى لو كانت راغبةً، فإنها ستتحاشَى الفضيحةَ، طالما جرى الإعلانُ عن العودةِ الى التنسيقِ الأمنيِّ (الذي لم يتوقفْ أصلاً). وقد اتضح أن عباس الذي استخدم أسلوباً حاداً في الهجومِ على الإماراتِ، كان يفعلُ ذلك لإرضاءِ آخرينَ، وليس غضباً من التطبيعِ مع إسرائيلَ، لأنه هو نفسُه، الذي يزعمُ أنه صاحبُ القضيةِ، كان يفتشُ لنفسِه عن ذريعةٍ للعودةِ الى تطبيعٍ مضاعَفٍ. ومن نافلِ القولِ، أن أيقونةَ الحاشيةِ، حسين الشيخ، حاول تسويقَ فكرةٍ مسمومةٍ أحقرَ من الأُكذوبةِ، وهي أن إسرائيل ستلتزمُ بالاتفاقاتِ والمرجعياتِ، وأن العلاقةَ معها "عادت الى مسارِها الصحيحِ". فإن كانت العلاقةُ مع إسرائيل ذاتَ مسارٍ صحيحٍ يا أصحابَ القضيةِ، فلماذا تتصنعون الغضبَ من التطبيعِ العربيِّ معها؟!
لعلَّ من سخرياتِ الحالِ، أن حسين الشيخ أصبح منتجَ البشائرِ، والمتخصصَ في تعيينِ الفارقِ بين الهزيمةِ والانتصارِ، وربما بسببِ هذا الدورِ، يمكنُ أن تضغطَ إسرائيلُ لكي تتدخلَ في صياغةِ الأدوارِ والمناصبِ، طالما أن هناك محضَ حاشيةٍ وليس نظاماً دستورياً، وعندئذٍ سنرى موقفَ النَّشامَى. فطالما أن هناك مِن بين الطَّيْفِ المحسوبِ على العملِ العامِّ انتهازيين أدمنوا التسحيجَ، ومرتعشين خائفين على أوضاعِهم وعلى قُوتِ أولادِهم؛ فلن ينغّصَ على حسين الشيخ سوى حاسديه من الحاشيةِ نفسِها أو من التابعين.
كثيرةٌ هي الظواهرُ المقلقةُ التي تؤكدُ أن الفضيحةَ تتشعّبُ. فالأمورُ ذاهبةٌ الى أسوأِ أنماطِ الاجتماعِ السياسيِّ الذي لا يقبلُه أيُّ شعبٍ مزّقته الحروبُ. علماً بأن هذا وضْعٌ لم ينشأْ من تلقاءِ نفسِه. فهو ملعوبٌ ومفتعلٌ. وبالنسبةِ لغزة، ليس ما جرَى لها محضُ مصادفاتٍ، أو خلل فنيٌ، أو سوءُ فَهمٍ، فكلُّ التدابيرِ لها مرجعياتُها وقد أُعِدّت في الظلامِ، وأرادت أطرافٌ إقليميةٌ ودوليةٌ، أن تستمرَّ ممارساتُ التمييزِ والإقصاءِ وسلبِ الحقوقِ وتشديدِ الحصارِ وإشقاءِ الناسِ في السفرِ والعودةِ، وشطبِ الدورةِ الاقتصاديةِ وسدِّ الآفاقِ في وجهِ الشبابِ. على الرغمِ من ذلك، لا زلنا بكلِّ أسفٍ نقرأُ يومياً مناشداتٍ ساذجةً لــ "فخامةِ الرئيسِ" تطالبُه بالإنصافِ وهذه لِتَزِيدَه غروراً وتمسكاً بما ذهب اليه. فكلُ ابتلاءٍ للمجتمعٍ، كان بقرارٍ منه، وبالنتيجةِ هو لن يُنصِفَ أحداً ولن يُعيدَ حقاً!
إن الموقفَ من هذا الرجلِ، لا علاقةَ له بشيءٍ آخرَ، أو بأيِّ اصطفافٍ. فمن يعرفُه يحسمُ أمرَه، بسببِ شُحِّه الإنسانيِّ وعفونتِه وجشعِه، وخلوِّه من أيِّ بعدٍ اجتماعيٍ أو وازعٍ ضميريٍ. وعلى الرغم من ذلك، لم يعدْ هو الملومُ الآن. فالمَلومون هم الذين يوفّرون له التغطيةَ، وأولئك الذين يصدّقونه ويراهنون عليه، أو يتوهّمون أنه يمكنُ أنْ يفكرَ بالمساعدةِ على قيامِ نظامٍ سياسيٍ نفخرُ به وبمؤسساتِه، ويُنهي الانقسامَ. إنّ هذا من سابعِ المستحيلاتِ!