أحياناً يحتاج التاريخ إلى عواصف قوية كي تزيل طبقة الغبار عن صخرة الواقع، يحدث أن يصاب الوعي برجة عنيفة بعد أن ينام على حرير الأفكار المسبقة وخصوصاً تلك التي تدغدغ عواطفه دون أن يتأمل ما وراءها. فهل كنا بحاجة لحرب دامية كي نتأمل الأشياء من جديد ؟ ربما ..!
في الذكرى السنوية للحرب تابعنا بيانات الفصائل التي لم تيأس من مناشدة العالم لوضع حد للإبادة في قطاع غزة ومعها أيضاً بعض المؤسسات الفلسطينية، وما زالت تلك البيانات تكرر ما باتت تعرف أن العالم الذي تناشده هو من وضع كل إمكانياته بتصرف إسرائيل، وفي أفضل أحواله مارس الصمت على كل تلك الجرائم التي ترتكب في قطاع غزة.
مطالبة العالم بتطبيق المواثيق الدولية يقابلها سكوت العالم على خرق تلك المواثيق، وهو ما يستدعي البحث بعمق أكبر حول السياسة الدولية وعلاقتها بكل ما تمت صياغته من أعراف وتقاليد ومواثيق وضعت من أجل منع الحروب ووقفها عندما تندلع والحد من الخسائر، وخلالها وُضعت ضوابط وخطوط حمراء بتجنب المدنيين والأطفال والنساء والمستشفيات والمدارس وغير ذلك ممن ليس لهم علاقة بالحروب وهو كل ما سحقته إسرائيل أمام الجميع فلماذا صمتوا ؟ هناك خطأ ما لم يستوقفنا مسبقاً.
لماذا هرع العالم رافعاً كل شعارات حقوق الإنسان حين تعلق الأمر بأوكرانيا، لكنه أصيب بالخرس حين تعلق الأمر بالفلسطينيين ؟ وهل يكفي تفسير أن الأمر يتعلق بالعدو الروسي أم أن هناك شيئاً آخر ؟ ففي هذه الحرب أدركنا أن العالم لا يقيس بمعيار واحد وأن القوانين الدولية لا تنطبق على الجميع وأن الموقف يرتبط بنوع الشعوب وبالجغرافيا.
بالعودة للنظام العالمي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية واضعاً ما يكفي من القوانين والمؤسسات المكلفة بتنفيذها، بات واضحا أن الأمر كان ينطبق على منطقة معينة وليس قوانين كونية.
فهو يتعلق بأوروبا التي خاضت حربين طاحنتين وفشلت عصبة الأمم في منع الحرب العالمية الثانية فتشكل النظام الدولي للحيلولة دون نشوب حرب عالمية ثالثة في أوروبا ليس أكثر.
لم يكن الأمر يتعلق بإفريقيا وآسيا وبالعرب والمسلمين وغيرهم من الشعوب الفقيرة النائية، ولم تفكر الدول المنتصرة في الحرب العالمية بهم ويظهر جلياً حين نتأمل مثلاً حق تقرير المصير للشعوب الذي اعتبر أحد مقدسات القانون الدولي والأمم المتحدة ومجلس الأمن، لقد تم إدراج هذا الحق في ميثاق الأمم المتحدة العام 1951 عندما كانت الدول الأوروبية تحتل عدداً من الدول في القارتين الآسيوية والإفريقية فكيف يستوي ذلك ؟ دول تطالب بتقرير مصير الشعوب وفي نفس الوقت تحتل أراضي شعوب دون أن تسمح لها بتقرير مصيرها ؟
وإذا كان ذلك تم إقراره "حق تقرير المصير" مطلع الخمسينيات لماذا بقيت دول تحت الاحتلال ؟ فالسودان نال استقلاله العام 56 والكويت العام 61 أما قطر والبحرين والإمارات فقد حصلت على استقلالها العام 71، وجميعها كانت تحت الاحتلال البريطاني.
أما الدول التي كانت تحت الاحتلال الفرنسي مثل تونس والمغرب فقد حصلتا على استقلالهما العام 56 والجزائر العام 62.
تلك عينات في المنطقة العربية فقط لكن الدول العظمى ظلت بعد الخمسينيات تسيطر وتمنع كثيراً من شعوب العالم من تقرير مصيرها ؟
هل يكفي هذا لمعرفة أن الأمر لا يتعلق بالمنطقة العربية، وأن تلك المنطقة خارج تلك المواثيق وأنها لا تنطبق على قطاع غزة ولم تكن تلك المنطقة العربية التي كانت تتقاسمها دولاً وشعوباً الدول الأوروبية الكبرى بالحسبان حين تمت كتابة المواثيق الدولية ؟ إذاً لماذا تستمر مطالبة العالم بتطبيق القوانين الدولية كما أوكرانيا مثلاً ؟ فالقوانين أيضاً هي ابنة مناخات دولية وزمن محدد.
يبدو أنه بعد ضم الدول العربية بعد أن نالت استقلالها للأمم المتحدة تعشمت بأن ما ينطبق على القارة الكبرى وشعوبها التي طحنت نفسها يمكن أن ينطبق عليها دون قراءة الواقع الدولي ومناخاته، أو لأن العالم العربي صدق ببراءته المعهودة العالم الغربي الذي دعم مؤسسات حقوق الإنسان في العواصم العربية أنه ينضم تلقائياً للنادي الدولي أو ربما لأن تلك المواثيق كانت تُستل حين يتعلق الأمر بدولة عربية بقصد معاقبتها.
في السنوات الأخيرة بدأ النظام الدولي يشهد عرياً لافتاً لم يعد بالإمكان تغطيته منذ عصر الهيمنة الأميركية والتعدي على دول ومعاقبة أخرى حتى خارج النظام الذي وضعوه، وجاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتضع المقارنة بين الغزو الروسي والاحتلال الإسرائيلي ثم تجيء الحرب على غزة لتقدم الدليل القاطع على حجم الخلل أو حجم الجهل في فهم النظام الدولي ولمن تم وضعه، والذي يظهر في بيانات الفصائل والمؤسسات الفلسطينية كأن الأمر يشملها دون أن تتعلم من تجربة التاريخ وأحداثه حتى بعد عام من الموت اليومي.
إذاً نحن أمام تمييز شديد أو بشكل أوضح أمام عالمين ومستويين. واحد تنطبق عليه القوانين وهي له ولحمايته وآخر كما العبيد لا علاقة له بها، كان لهذه الحرب أن تجسد ذلك أمامنا وإذا كنا غير قادرين على تغيير النظام العالمي فعلى الأقل دعونا لا ننخدع أكثر ؟