الكوفية:رغم أن تعقيدات المرحلة التي تعيشها الضفة الغربية اليوم لم تتبلور كنتيجة لهجوم السابع من أكتوبر من العام الماضي، إلا أن تبعات ذلك الهجوم قد يساعد على تفاقمها. ورغم أن الاحتلال لم يُخفِ أطماعه في ضم الضفة الغربية منذ اليوم الأول لاحتلالها في العام ١٩٦٧، واتخاذه لاستراتيجية إدارة الصراع مع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة بعد توقيع اتفاق أوسلو للسلام في العام ١٩٩٣ بما يضمن له الضم الزاحف للضفة الغربية، إلا أن وصول حكومة نتنياهو اليمينية الحالية لسدة الحكم نهاية عام ٢٠٢٢ دشنت مرحلة جديدة مع الفلسطينيين باتجاه حسم الصراع وضم الأراضي الفلسطينية دون مواربة، والتنكر لاستحقاق حق تقرير المصير للفلسطينيين وإقامة الدولة الفلسطينية فيها. إلا أن تبعات هجوم السابع من أكتوبر، وما كشفه الهجوم الإسرائيلي على غزة من دعم أميركي مطلق للاحتلال، وصمت دولي وإسلامي وعربي على جرائمه وعجز التنظيم الأممي عن ممارسة دوره، سواء في ردعه للاحتلال أو في إغاثة شعب محتل أعزل يقبع تحت سلطة الاحتلال ويتعرض لإبادة جماعية أمام أنظار العالم، لا يجعلنا نتوقع الكثير في حال تفاقمت الأوضاع في الضفة الغربية. كما أن هجوم السابع من أكتوبر كشف مدى تغلغل أجهزة أمن ومخابرات الاحتلال في دول الجوار، الأمر الذي مكنها من نسج المؤامرات وارتكاب جرائم اغتيال فيها، ما يجعلنا نقر بمدى امكانية تدخل وانخراط تلك الأجهزة في الأراضي الفلسطينية، التي تقع بالفعل تحت سيطرتها ومتابعتها الفعلية. ولعل أكبر أدلة على ذلك جرائم الاغتيال التي ارتُكبت في لبنان وطالت المستوى الأعلى لقيادة حزب الله، وجريمة تفجير «البيجرات» والتي طالت آلاف العناصر للحزب، وجريمة اغتيال إسماعيل هنية في عقر دار الإيرانيين. كما أن الموقف الأميركي المثير للجدل، سواء في إدارة بايدن الراحلة، التي شجعت الاحتلال على مواصلة جرائمه وتحقيق أهدافه، أو ادارة ترامب القادمة، والتي لا تبشر بحقبة مزهرة للفلسطينيين. ويعول نتنياهو وأعضاء حكومته اليمينية على بدء حقبة ترامب لتنفيذ مخططاتها في ضم الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، وبشكل يفوق ما عرضه ترامب خلال إدارته السابقة في صفقة القرن في العام ٢٠٢٠. وقد تشير تعيينات ترامب لمساعديه في الملف الإسرائيلي الفلسطيني، وتصريحاته المثيرة للجدل، إلى أن الضفة الغربية تنتظرها أيام صعبة.
لم يُخفِ الاحتلال أطماعه في ضم الضفة الغربية، منذ اليوم الأول لاحتلالها في العام ١٩٦٧، وتدشين أول مستوطناته فيها، وقد ضم بالفعل القدس الشرقية في العام ١٩٨٠، ويخضع مستوطنوه حالياً في الضفة الغربية للقانون الإسرائيلي، والعمل على توسيع مثل تلك الإجراءات. لم يمنع اتفاق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين في العام ١٩٩٣ إسرائيل من مواصلة سياسة الضم، بل على العكس، وضع الاتفاق ليضمن هذه السياسة، عندما قسّم الأراضي الفلسطينية لثلاث شرائح، ووضع الشريحة الأكبر والتي تشمل ثلثي مساحة الضفة الغربية تحت سلطة الاحتلال الكاملة، الإدارية والمدنية والأمنية، وضَمِن تمدد الاستيطان والمستوطنين اليهود فيها، وقلّص التواجد الفلسطيني فيها للحد الأدنى، لدرجة بات عدد الفلسطينيين في تلك الشريحة من الأرض أقل من عدد المستوطنين اليهود، دون أن يتخلى الاحتلال عن السيطرة والمتابعة الأمنية في باقي المناطق الأخرى.
نقل الاحتلال حوالي ١٠٠ ألف مستوطن إلى الضفة الغربية من دون القدس منذ احتلالها حتى توقيع اتفاق أوسلو، ومنذ توقيع ذلك الاتفاق حتى اليوم تخطى عدد المستوطنين فيها ٥٠٠ ألف، وتعلن حكومة الاحتلال اليوم نيتها رفع العدد إلى ٧٠٠ ألف مستوطن خلال السنوات الاربع القادمة، وفق استراتيجية ضم معلنة لأراضي الفلسطينيين. لم تُخفِ حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة الحالية تطوير إستراتيجية عملها في الضفة الغربية منذ اليوم الأول لوصولها لسدة الحكم، والتي عكستها صراحة الاتفاقيات الائتلافية بين أركان هذه الحكومة. وقد يكون أهم ما يلفت النظر في تلك الاتفاقيات والممارسات التي انتهجها وزراء تلك الحكومة، أي في تلك الاستراتيجية المتقدمة هو التركيز على المواطن الفلسطيني نفسه، ومن هنا تتضح الخطورة. كانت استراتيجية الضم السابقة للأراضي الفلسطينية تقوم خلال السنوات الماضية بالتركيز على التمدد الاستيطاني، وزيادة عدد المستوطنين. بالإضافة إلى ذلك، ركز نتنياهو في حكوماته السابقة على الاحتفاظ بحالة الانقسام الفلسطيني، من خلال سياسات تم توجيهها لقطبي القيادة الفلسطينية في الضفة وغزة. إلا أن سياسة نتنياهو اليوم، والتي بدأت منذ صعود حكومته نهاية العام ٢٠٢٢، وتواصلت بقوة بعد هجوم السابع من أكتوبر، باتت موجهة للمواطن الفلسطيني نفسه، بالإضافة إلى هجمة غير مسبوقة للاستيلاء ومصادرة أراضي الفلسطينيين، وإضعاف القيادة الفلسطينية.
زادت نسبة الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين، والتوغلات العسكرية والقتل والاعتقالات وهجمات المستوطنين على المدن والقرى الفلسطينية. وبلغت مساحات الأرض التي استولى عليها الاحتلال الإسرائيلي في العام ٢٠٢٣ وحده أكثر من ٥٠ ألف دونم مقارنة بحوالي ٢٦ ألف دونم خلال العام ٢٠٢٢. ومنذ السابع من أكتوبر من العام الماضي، أعلن عن مصادرة حوالي أكثر من ٢٤ ألف كـ «أراضي دولة»، أي ما يقدر بحوالي نصف المساحة المعلنة كأراضي دولة منذ اتفاقات أوسلو. وفي عام ٢٠٢٢، استُشهد ١٧١ فلسطينياً على يد قوات الاحتلال في الضفة الغربية وحدها، وهو العدد الأعلى منذ العام ٢٠٠٥، بينما حطم العام ٢٠٢٣ رقماً قياسياً من حيث عدد الشهداء، فاستُشهد ٣١٧ فلسطينياً في الضفة قبل هجوم ٧ أكتوبر، وبلغ العدد ٥٢٧ شهيداً في نهاية ذلك العام، بينما وصل العدد اليوم في نهاية العام ٢٠٢٤ إلى ٨٢٤ شهيداً. ووصل عدد الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في نهاية العام ٢٠٢٢ في سجون الاحتلال إلى ٤٧٠٠ فلسطيني، وارتفع إلى ٧ آلاف في نهاية العام الماضي، وتخطى ١٠ آلاف خلال العام الجاري. وزاد كذلك نطاق وشدة حوادث عنف المستوطنين ضد السكان الفلسطينيين، فبينما سجل العام ٢٠٢٢ حوالي ١٢٠٠ حالة اعتداء للمستوطنين، في ارتفاع ملحوظ في عدد تلك الاعتداءات عن السنوات الماضية، وثق العام ٢٠٢٣، وقبل هجوم السابع من أكتوبر أكثر من ١٢٠٠ حادثة اعتداء، وتخطى عددها ٢٤٠٠ اعتداء حتى نهاية ذلك العام، مسجلاً رقماً قياسياً. ولم يكن العام الحالي أفضل حالاً من العام الماضي، في ظل دعم من قبل المؤسسة الرسمية.
لم يقبل نتنياهو منذ صعوده للسلطة عام ١٩٩٦ بقيام دولة فلسطينية، وطالما ماطل في الحديث عن ذلك صراحة. وساعد نتنياهو ومكتبه ترامب في العام ٢٠٢٠ على وضع تفاصيل صفقة القرن التي تقوم على أساس الضم. وجرى طرح عروض إسرائيلية مختلفة لحدود ذلك الضم، منها ما طرح ضم منطقة الغور والأراضي التي ضمها السور العازل، بالإضافة إلى الكتل الاستيطانية الضخمة، ومنها ما اعتبر أن الضم يشمل منطقة (ج) بأكملها أي ثلثي الضفة الغربية، التي حددتها اتفاقية أوسلو لتكون تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، إلا أن ما يُطرح اليوم يشير إلى ضم كامل للضفة الغربية، ومنع وجود أي تمثيل سياسي فلسطيني مستقبلي. ووصلت الطروحات اليوم إلى تحويل الضفة الغربية لتكون جزءاً من إسرائيل وإلغاء وجود السلطة الفلسطينية، وتتحول المدن الفلسطينية إلى سلطات محلية مسؤولة عن نفسها تحت السيطرة الإسرائيلية، بحيث تكون مكانة السكان مثل مكانة المقدسيين، الذين يعطيهم الاحتلال صفة مقيم، على أن يكون التوجه الوطني والثقافي والتعليمي كما كان قبل العام ١٩٦٧ وفق النظام الأردني. وقد لفت عدد من الصحافيين الإسرائيليين النظر في مقالات عديدة نُشرت مؤخراً إلى سياسة حكومة بلادهم تجاه إضعاف وتقويض مكانة السلطة الفلسطينية، بأساليب وأدوات عديدة. إن ذلك يفرض على الفلسطينيين مراعاة أعلى درجات الحيطة والحذر، في ظل وجود عدو له أهدافه المعلومة، وموجود على الأرض ويحقق اختراقاً أمنياً واستخبارياً متوقعاً، فهل سينجح الفلسطينيون في إحباط مخططات العدو في الضفة؟