نشر بتاريخ: 2025/12/16 ( آخر تحديث: 2025/12/16 الساعة: 21:42 )
المحامي علي أبو حبلة

الأزمات وكيفية إدارتها في ظلّ الواقع الفلسطيني

نشر بتاريخ: 2025/12/16 (آخر تحديث: 2025/12/16 الساعة: 21:42)

الكوفية يعيش الشعب الفلسطيني في قلب أزماتٍ مركّبة ومتداخلة، سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية، لم تعد طارئة أو مؤقتة، بل باتت بنيوية ومزمنة، بفعل الاحتلال الإسرائيلي وسياساته الاستعمارية، وتداعيات الانقسام الداخلي، وتراجع النظام الإقليمي والدولي عن تحمّل مسؤولياته القانونية والأخلاقية تجاه القضية الفلسطينية. وفي هذا السياق، لم تعد الأزمة حدثًا استثنائيًا، بل واقعًا يوميًا يفرض نفسه على صانع القرار والمواطن على حدّ سواء، ما يستدعي مقاربة مختلفة في الفهم والإدارة.

الأزمة في جوهرها ليست فقط نتاج خطر خارجي، بل نتيجة تفاعل بين تحديات موضوعية وإخفاقات ذاتية في الاستجابة والإدارة. فالاحتلال يمارس سياسة صناعة الأزمات بوعيٍ ممنهج، عبر الحصار، والتحكم بالموارد، وتقويض الاقتصاد، وضرب البنى المؤسسية، وفرض وقائع سياسية وأمنية على الأرض. غير أن خطورة المشهد تتعاظم حين تقابل هذه السياسات بضعف في إدارة الأزمات، أو بردود فعل آنية تفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى.

إن إدارة الأزمات في الحالة الفلسطينية لا يمكن أن تُقاس بالمعايير التقليدية للدول المستقرة، لأن فلسطين تخوض صراع تحرر وطني في ظل غياب السيادة، وتحت احتلال عسكري مباشر. ومع ذلك، فإن هذا الواقع لا يعفي من ضرورة تبنّي نهج علمي ومؤسسي في إدارة الأزمات، يقوم على التخطيط، واستشراف المخاطر، وتوحيد الجهود، وتعزيز الشفافية والمساءلة.

أولى ركائز إدارة الأزمات تتمثل في تشخيص الأزمة بدقة، بعيدًا عن التوصيف الإعلامي أو العاطفي. فالأزمة الاقتصادية، على سبيل المثال، لا تنفصل عن القيود الإسرائيلية على المعابر والموارد، لكنها في الوقت ذاته تتأثر بضعف السياسات المالية، وغياب العدالة الضريبية، وتراجع الثقة بين المواطن والمؤسسة. وكذلك الحال في الأزمات الاجتماعية، التي يغذيها الفقر والبطالة، لكنها تتفاقم في ظل غياب شبكات الحماية الاجتماعية الفاعلة.

الركيزة الثانية هي وحدة القرار وتكامل الأدوار. فإدارة الأزمات لا تنجح في بيئة من الانقسام السياسي وتعدد المرجعيات. الانقسام الفلسطيني لم يعد خلافًا سياسيًا فحسب، بل تحوّل إلى أزمة بحدّ ذاته، تُقوّض أي استجابة وطنية جماعية، وتُضعف القدرة على استثمار الطاقات والموارد. إن إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية لم يعد شعارًا، بل شرطًا أساسيًا لإدارة أي أزمة قائمة أو قادمة.

أما الركيزة الثالثة فتتمثل في الانتقال من إدارة ردّ الفعل إلى إدارة الفعل. كثير من السياسات الفلسطينية اتسمت بالطابع التفاعلي، أي الاستجابة للأحداث بعد وقوعها، بدل العمل على منعها أو تقليل آثارها. إدارة الأزمات الحديثة تقوم على بناء سيناريوهات محتملة، ووضع خطط بديلة، والاستعداد للأسوأ، لا الاكتفاء بالأمل في الأفضل.

كما أن تعزيز الثقة بين القيادة والمجتمع عنصر حاسم في إدارة الأزمات. فالمجتمعات التي تشعر بالعدالة، وبأنها شريكة في القرار، تكون أكثر قدرة على الصمود وتحمل الأعباء. الشفافية في عرض الحقائق، والمصارحة في التحديات، وتوزيع الأعباء بشكل عادل، تشكّل صمام أمان اجتماعي في أوقات الأزمات.

ولا يمكن إغفال البعد القانوني والدولي في إدارة الأزمات الفلسطينية. ففلسطين تمتلك رصيدًا قانونيًا مهمًا في الشرعية الدولية، لكن هذا الرصيد يحتاج إلى تفعيل حقيقي، لا موسمي، عبر توظيف القانون الدولي، ومحكمة الجنايات الدولية، والضغط الدبلوماسي المنظّم، لرفع كلفة الاحتلال، بدل الاكتفاء بإدارة تداعيات جرائمه.

خلاصة القول، إن الأزمات في الواقع الفلسطيني ليست قدرًا محتومًا، بل تحديات يمكن تقليص آثارها، بل وتحويل بعضها إلى فرص، إذا ما توفّرت الإرادة السياسية، والرؤية الاستراتيجية، والإدارة الرشيدة. فالشعوب لا تُقاس بقلة أزماتها، بل بقدرتها على إدارتها، والفلسطينيون، رغم قسوة الواقع، ما زالوا يملكون من الوعي والقدرة ما يؤهلهم لصناعة الصمود، شرط أن تُدار الأزمات بعقل الدولة، لا بمنطق ردّ الفعل، وبروح الشراكة الوطنية، لا بعقلية الإقصاء والانقسام.