قبل الحديث عمّا جرى ويجري في جنين وغيرها من مدن الضفة من مظاهر مسلحة وصدامات مع السلطة، لا بد من العودة إلى تحليل الواقع للبحث في التفكير بخيارات الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة. فما جرى في الفترة الماضية شكل تحولاً كبيراً في موازين القوى لصالح إسرائيل التي لم يكن أحد يردعها حتى قبل التطورات الأخيرة، وخصوصاً نجاحها في تقويض القدرات العسكرية للفصائل الفلسطينية بصورة كبيرة وذات مغزى، وكذلك تحقيق نجاح مماثل في توجيه ضربات كبيرة وصادمة لمنظمة «حزب الله»، ما دفعه لتفويض الدولة اللبنانية للتفاوض نيابة عنه للتوصل إلى وقف إطلاق نار يحمي لبنان ويوقف شلال الخسائر. ثم جاء الانهيار السريع والمفاجئ للنظام السوري والذي منح إسرائيل الفرصة لتدمير المقدرات العسكرية واللوجستية للجيش السوري وحتى القدرات البحثية للدولة. وأصبحت الأراضي والأجواء السورية مستباحة تماماً لجيش الاحتلال الإسرائيلي الذي قام باحتلال أراض سورية جديدة في منطقة الجولان وجوارها بالقرب من دمشق.
والآن وفي ظل شعور إسرائيل بالتفوق والقدرات العسكرية المفرطة بعد تدمير محور إيران أو ما اصطلح على تسميته «محور المقاومة»، أصبحت شهية إسرائيل مفتوحة لاستكمال عملية التدمير لتطال إيران نفسها، بعد الوصول لقناعة بأن إيران الآن أضعف بكثير مما كانت عليه قبل عام، وخاصة بعد إضعاف الفصائل المؤيدة لها وخاصة «حزب الله». وتحاول إسرائيل تبرير هجوم محتمل ضد المنشآت النووية الإيرانية بالادعاء أن إيران الآن بعدما فقدت حلفاءها ستتجه نحو امتلاك سلاح نووي بتسريع برنامجها، وخاصة عملية تخصيب اليورانيوم لمستويات عسكرية. ويساعدها في هذا الادعاء إعلان إيران توسيع نشاطاتها النووية. كما يساعد إسرائيل كذلك وجود إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب الذي هو ضد أي نوع من التفاهم مع إيران على وجود برنامجها النووي والصاروخي، ويدعو لممارسة أقصى الضغوط عليها. وهذا سبب كاف لمنح إسرائيل الضوء الأخضر لتوجيه ضربة مدمرة ضد إيران طالما هذا لا يورط أميركا في حرب مباشرة مع إيران لا يريدها الرئيس ترامب.
في ظل هذه المعطيات يمر الفلسطينيون بظروف صعبة وقاهرة ليس فقط في قطاع غزة الذي يتعرض لإبادة جماعية غير مسبوقة في التاريخ البشري الحديث، بل كذلك في الضفة الغربية التي يتركز فيها في الحقيقة المشروع الاستعماري الإسرائيلي الذي يأخذ زخماً كبيراً في عهد حكومة بنيامين نتنياهو وشركائه سموتريتش وبن غفير وهو المشروع القائم على الاستيطان والضم وتدمير إمكانية قيام كيان فلسطيني مستقل. ودون شك شكلت الحرب في غزة غطاءً جيداً لهذه الحكومة لتكثيف عملية مصادرة الأراضي وتوسيع البنية التحتية الاستيطانية وتغيير الواقع السياسي والقانوني الإسرائيلي لوضع مناطق (ج) في الضفة الغربية، لتحويل عملية الضم من واقعية إلى قانونية.
لا يختلف الفلسطينيون على فكرة ومبدأ مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ولكن الخلاف كان قائماً على الدوام حول الوسائل في كل مرحلة. فكان الجدل كبيراً بعد انخراط منظمة التحرير الفلسطينية في العملية السياسية التي قادت إلى اتفاق «أوسلو». ومنذ إقامة السلطة الوطنية حاولت بعض الفصائل المعارضة للفكرة العمل على تدميرها بانتهاج مقاومة مسلحة هدفها الأكبر إفشال العملية برمّتها، وتداخلت فيها للأسف عوامل خارجية إقليمية في إطار صراعات لا علاقة لفلسطين بها. وبعد أن فشلت المعارضة المسلحة في تقويض «أوسلو» والسلطة الفلسطينية، ارتكبت الأخيرة خطأ السماح وتشجيع انتقال الانتفاضة الثانية إلى مقاومة مسلحة أدت إلى تدمير غالبية ما تم إنجازه في سنوات السلطة الأولى من العام 1994 وحتى العام 2000، حيث كان لدينا مطار وكنا قاب قوسين وأدنى من بناء الميناء البحري الذي وضع حجر الأساس له، وكان هناك ممر آمن بين الضفة وغزة، وكان الوضع الاقتصادي مزدهراً ويتطور باستمرار.
كان حصاد الانتفاضة الثانية المسلحة دماراً كبيراً ليس فقط للمقدرات الفلسطينية التي بنيت بالعرق والتضحيات، بل لفكرة الحل السياسي، والضرر الذي ترتب عليها في الرأي العام الإسرائيلي لا نزال نعيش نتائجه بفوز اليمين في السلطة وصولاً إلى اليمين العنصري الفاشي الذي تمثله الصهيونية الدينية. وجلبت لنا نتائج كارثية في الاجتياحات وبناء جدار الفصل العنصري. وخلقت تغييراً كبيراً في الخارطة السياسية الفلسطينية بفوز «حماس» في الانتخابات للمجلس التشريعي، وما أعقب ذلك من حصار وانقلاب وانقسام، وأخيراً الحروب المتتالية وآخرها الحرب الحالية التي بدأت بمغامرة مدمرة دفعنا ثمنها بشكل لا يخطر على بال أحد في أسوأ الكوابيس التي يمكن تخيلها. وكل شيء تم تحت مسمى «المقاومة». وكأن المقاومة هي الهدف وليست وسيلة للوصول إليه، وبالتالي إمكانية استخدام وسائلها بما يخدم الأهداف الوطنية العليا في الحرية والاستقلال يعتبر نقاشاً زائداً وغير مسموح به. فمن يتحدث عن وسائل مقاومة غير تلك التي تتبناها فصائل ومجموعات معينة يكفر ويخرج من معسكر الوطنية. وليس مهماً في نظر من يقدسون الوسيلة ما هي النتائج وهل يتوجب التفكير في وسائل أكثر نجاعة وأقل ضرراً.
ما يحدث الآن في الضفة ببساطة استمرار للتفكير الذي قاد إلى دمار غزة وتعزيز المشروع الاستيطاني المجرم، ويجب عدم السماح باستمراره بأي ثمن. ولكن ينبغي أيضاً الاعتراف بأن السلطة الوطنية والقيادة قد أخطأتا بالانتظار طوال هذه الفترة حتى توسعت ظاهرة المجموعات الاستعراضية التي تريد أخذنا إلى مربع حرب غزة مع نتائج كارثية. وفي هذا السياق ينبغي التركيز على ما يقوله اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يريد حرباً في الضفة على غرار حرب غزة. ومقاومة الاحتلال والاستيطان يجب أن تتم بوسائل شعبية سلمية أكثر نجاعة تحظى بدعم المجتمع الدولي وتؤثر حتى في المجتمع الإسرائيلي. ولننظر إلى ما حققته الدبلوماسية والحرب السياسية والقانونية في محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ونعمل على توسيعها وتعميقها.