لا أعرف إذا كان بنيامين نتنياهو الذي صفع الرئيس جو بايدن، ونائبته كامالا هاريس في ليلة الانتخابات الأميركية كان يعرف بوسائله «الخاصة» أن «الرئيس» ترامب هو الفائز بهذه الانتخابات، وأنّ اكتساح مجلسي «الشيوخ» و»النوّاب» سيضاف إلى هذا الفوز الكبير.
لكن إقدام نتنياهو على إقالة وزير الحرب يوآف غالانت ما كانت لتتمّ في ليلةٍ الانتخابات لولا أنّه أراد أن يُرسل برسالة إلى الحزب الديمقراطي الأميركي، وإلى هاريس، وإلى «كلّ من يهمّه الأمر» في المجتمع الأميركي بأن نجاح ترامب يعني، وسوف يعني أنّ يد إسرائيل لم تعد طليقة كما كانت قبل الانتخابات الأميركية، وفي ظلّ وجود إدارة بايدن فحسب، وإنّما «متحرّرة» بالكامل من كلّ «القيود»، وأنّ «اليمين الفاشي» في دولة الاحتلال أصبح يُحكِم السيطرة على السلطة السياسية، وعلى الجيش، وعلى كلّ مقاليد الحكم، وأنّه سيمضي قُدُماً في حسم الصراع، وسيسير فيه إلى نهايته التي هي عودة دولة الاحتلال لفرض هيمنتها على الإقليم.
هذه الصورة التي يحاول أن يرسمها نتنياهو، والتي تبدو «زاهية» في نظره، وفي نظر الدولة التوراتية التي يراها «اليمين الفاشي» هي صورة مُزيّفة، وليس لها أيّ أسانيد واقعية.
لماذا هذه الصورة الزاهية زائفة؟
الجواب هو أنّ نتنياهو حتى يحوّلها من صورةٍ زاهية يحتاج الى «الانتصار» في الحرب، وإلى انتصار حقيقي، وليس إلى مجرّد صورة منه، ويحتاج إلى جيش قادر على الاستمرار بالحرب دون أن يكون هذا الاستمرار عبئاً على حالة الاقتصاد، وعلى الوضع الاجتماعي، وعلى القدرات الإسرائيلية على تحمُّل هذه الأعباء، كما يحتاج إلى استمرار الدعم الشعبي لهذا الاستمرار.
إسرائيل التوراتية، وليس مجرّد الصهيونية، وإنّما الصهيونية الدينية القومية العنصرية المتطرّفة ليست هي المقاتلة إلّا بواسطة الميليشيات المسلّحة، والمستوطنين، والجيش نفسه يذهب منذ أكثر من عام على هذه الحرب الإبادية من فشلٍ إلى فشل، ومن عجزٍ إلى عجزٍ أكبر، وهو الآن بالذات، وبعد إقالة غالانت هو المتهم بهذا العجز وهذا الفشل، وأصبح قادته وجنرالاته على «الرفّ» السياسي، وبات من تبقّى منهم في الواجهة العسكرية تحت المقصلة، وجاء في مكانهم «شلّة» من الهُواة والمُتملّقين من وزن يسرائيل كاتس، الذي هو أضعف من أيّ موظّف نبيه في أيّ وزارة إسرائيلية بمرتبة مدير عام، في إشارة واضحة الى أنّ مكانة الجيش قد انحدرت في الواقع الإسرائيلي، ولم تعد صورته المعهودة سوى ذكرى ماضية.
تهميش مكانة الجيش هي عنوان من عناوين الانقلاب الذي قام به نتنياهو في ليلة «القبض على الرئيس بايدن»، وهي استمرار للانقلاب على القضاء، وهي تحضير الأرض المناسبة للانقلاب الكامل على أيّ إمكانية لتجنيد «الحريديم».
أيّ أنّ «التحصين» الذي يقوم به نتنياهو هو تحصين لبقاء الائتلاف الفاشي الحاكم قوياً ومتماسكاً مهما كانت نتائج هذه الحرب، حيث جاءت رشوة جدعون ساعر بمنصب وزير للخارجية في هذا الإطار بالذات، ولم يعد لـ»الحريديم» أيّ مشكلة مع نتنياهو بعد «طرد» غالانت، وها هو إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش يُرسلان لـنتنياهو التهاني والتبريكات بمناسبة طرد غالانت من الوزارة ومن قيادة الجيش.
والحقيقة أنّ الانقلاب على الجيش هو «حاجة ماسّة» من وجهة نظر نتنياهو، ومن وجهة نظر ائتلاف الدولة اليهودية الدينية من أجل وقف ومنع تشكيل لجنة تحقيق رسمية في إخفاقات هذه الحرب منذ 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023 وحتى الآن، ومن أجل «تمويت وتتويه» فضيحة التسريبات، والتي أصبحت الآن، وحسب المعطيات الأخيرة فضيحة لتزوير الوثائق الرسمية، ومَحَاضِر اجتماعات الحكومة، ولكلّ بروتوكولات الإبلاغ والتبليغ، وصولاً إلى تهريب النشر إلى خارج الحدود.
دولة الاحتلال اليوم والآن هي الدولة الأقلّ أمناً وأماناً على سطح الكرة الأرضية، وإقالة وزير الحرب ليس لها علاقة من قريب أو بعيد بهذه المسألة، بل وليست لها علاقة من قريب أو بعيد بالحرب وإنجازاتها أو إخفاقاتها، وإنّما العلاقة الوحيدة لهذه الإقالة مع الحرب هي الكيفية التي من خلالها تساهم هذه الإقالة في بقائها واستمرارها، بصرف النظر عن الإخفاق الذي وصلت إليه، وفي منع التحقيق في هذا الإخفاق، وفي تنصُّل القيادة السياسية عنه ومنه، وفي منع الوصول إلى حقيقة التلاعب الذي مارسته هذه القيادة أثناءها، وخصوصاً سرقة وتزوير ما بات يُعرف بـ»وثائق السنوار»، وأخيراً استبدال مصلحة «الأمن القومي» بالحفاظ على رضا «الحريديم» والاكتفاء بصلواتهم ودعواتهم للجيش بالنصر «المؤزّر» بدلاً من الالتحاق به في ظروف هو أحوج ما يكون لهذا الالتحاق، وخصوصاً بعد اندحاره من جنوب لبنان، وعجزه في القطاع.
الصورة الزاهية التي يراها نتنياهو تحتاج إلى انتصارات ليست باليد، وإلى سيطرة على الجيش لم تعد مضمونةً بما يكفي بعد كلّ هذه الإهانات التي وجّهها لصورته ومكانته، وبعد كلّ الألاعيب التي مارسها ضد الجيش، وضدّ كلّ قوى الأمن الإسرائيلية وأذرعها من خلال سرقة الوثائق وتزوير وقائع المحاضِر ونشرها.
وكذلك تحتاج الصورة الزاهية إلى دعمٍ جماهيري بات مستحيلاً في ظلّ افتضاح أمر نتنياهو، وكلّ أعوانه في مسألة السعي المباشر للتضحية بالأسرى الإسرائيليين، وعدم الاكتراث بحياتهم، بل والسعي إلى التخلُّص منهم، فما الذي سينفعه وأعوانه الفوز الكبير الذي حقّقه الرئيس الجديد ترامب؟
وماذا سيضيف هذا الانتصار الترامبي الكبير للصورة الزاهية التي تتراءى له، ولأعوانه؟
في الواقع لا شيء على الإطلاق. بل على العكس يمكن أن تكون الصورة أكثر قتامةً ممّا يعتقد.
بايدن، والذي ما زال رئيساً شرعياً إلى اللحظة التي ستلي أداء القَسَم لديه فرصة لردّ الصفعة بصفعتين، ولديه الوسائل والإمكانيات والصلاحيات طالما أنّ الأمر لا يتعلّق بما يهدّد «الأمن القومي الإسرائيلي»، أو يمسّ بأيّ جانبٍ من جوانب هذا الأمن.
والانقلاب على الواقع الإقليمي كلّه في ظلّ وجود ترامب أصعب مّما كان في عهد بايدن لأسباب نعرفها جيداً. والمراهنة على «الضمّ» وموافقة ترامب عليها في الضفة لن تكون بالسهولة التي يتحدّث بها أعوانه في دولة الاحتلال، بالرغم من «سخاء» الدعم الذي تلقّاه ترامب من أقطاب «المسيحية الصهيونية» في حملة الانتخابات الأميركية، لأنّ ظروف الإقليم تغيّرت، وتغيّر اللاعبون، وتغيّرت الأدوار، ودولة الاحتلال في مقدّمة من طالهم هذا التغيير، سواءً تعلّق الأمر بالمكانة أو الدور، أو حتى الوظيفة، ناهيكم طبعاً عما يتعلّق بالعجز والإخفاق والوهن الذي أصاب الجيش والدولة في آنٍ معاً.
وماذا سيفعل نتنياهو إذا ذهب ترامب إلى إستراتيجيته المفضّلة نحو [الحياة هي صفقات]؟
ولماذا على ترامب أن يتمسّك برجلٍ بات يُنعَت بالجُنون؟ وعلى «ائتلاف» لا يرى في الحياة سوى أنّ [الحياة هي حروب متواصلة، وليست صفقات أو مساومات]؟
وماذا سيفعل ترامب للجوقة الحاكمة في دولة الاحتلال إذا أعلنت إيران خلال عدّة أيّام أو أسابيع فقط أنّها تمتلك السلاح النووي؟
وما نفع الدعم الترامبي ضدّ امتلاك إيران لهذا السلاح إذا ما تمّ امتلاكه الآن، وقبل أن يستلم صلاحياته الدستورية؟
على العكس من ذلك كلّه فإنّ نتنياهو في الواقع يكون قد أخفق في الفترة «الذهبية» التي وفّرتها له إدارة بايدن، وقد أهدرها، ولم يُحسن الاستفادة منها، وترامب لن يُقدم له شيئاً جديداً عما قدّمه له بايدن، وكانت النتيجة هي التي نراها الآن، وليس هناك في الأفق من نتيجة مُغايرة. وسنرى كيف أنّ صدّ ارتدادات الفضائح سيكون الشُّغل الشَّاغِل لهذه الجوقة كلّها.